في وقت يزداد فيه التركيز على الأوضاع في حلب السورية، بعد تطور الأحداث فيها على نحو دراماتيكي، لا يبدو أن التوصل إلى هدنة جديدة تشملها أمر ممكن في الوقت الراهن، بالرغم من الضغوط الكبيرة التي تمارسها الجهات الدولية والإقليمية الفاعلة، لا سيما الولايات المتحدة و​روسيا​، نظراً لصعوبة العودة إلى الوراء قبل حسم التوجه، بالنسبة إلى التعاطي مع عناصر جبهة "النصرة" الإرهابية المتواجدين في المدينة.
بموجب القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة، بالإضافة إلى الإتفاقات التي حصلت بين مجموعة الدعم الدولية، تصنيف الجبهة لا يختلف عن ذلك المتعلق بتنظيم "داعش" الإرهابي، إلا أنه على أرض الواقع لا تزال أغلب الفصائل السورية المعارضة، التي تصنف "معتدلة"، تتعاون معها في العمليات العسكرية، الأمر الذي كانت تسعى الحكومة الروسية إلى وقفه، في الآونة الأخيرة، عبر الضغط على الولايات المتحدة لدفع تلك الفصائل إلى إعلان إنفصالها عن "النصرة"، لكن هذا الأمر لم يحصل حتى الآن، نظراً إلى أن الترابط بين الجانبين كبير جداً، وهو لا يتوقف عند ​مدينة حلب​ بل يشمل مناطق أخرى، وما الإعلان عن عودة العمل بغرفة عمليات "جيش الفتح"، مؤخّرا إلا تأكيد على ذلك.
من حيث المبدأ، تستفيد ​الحكومة السورية​ والقوى المتحالفة معها من هذا الواقع إلى أبعد حدود، فهي رغم الضغط الإعلامي الكبير الذي يمارس عليها تحارب منظمة مصنفة إرهابية، من قبل أغلب القوى المعنية بالحرب الدائرة في بلادها، في حين أن الكرة في ملعب الفريق الآخر من أجل الإبتعاد عن الجناح السوري لتنظيم "القاعدة"، الأمر الذي قد يؤدي إلى توجيه ضربة قاضية له من دون حصول أي معركة، فالجميع يعلم بأن الجبهة هي العامود الفقري لقوى المعارضة في حلب، وبالتالي هي لا يمكن أن تقوم بأي معركة من دونها.
إنطلاقاً من ذلك، عمدت الجبهة إلى إشعال المعارك في المدينة قبل غيرها، بهدف منع الإستفراد بها في المرحلة المقبلة، فهي تدرك جيداً أن القضاء على "داعش" سيكون الخطوة الأولى في طريق إنهاء وجودها، وبالتالي كان عليها التحرك سريعاً لمنع تحقيق هذا الهدف، رغم الصراع القائم بينهما، وهي فعلاً قامت بهذه الخطوة، على أمل النجاح في إستعادة زمام المبادرة، لكنها لم تنجح في تحقيق النتيجة التي كانت تسعى إليها، حيث تمكن الجيش السوري من إستيعاب الهجمات التي قادتها ضد مراكزه، لكن الضغوط الدولية والإقليمية ستقود حتماً إلى تسوية ما خلال وقت قريب.
وفي ظل الموقف الروسي الحاسم بالوقوف إلى جانب الحكومة السورية، التي تؤكد موسكو في جميع مواقفها أنها شريك أساسي لها في الحرب على الإرهاب، من المستبعد أن تكون التسوية على شكل تدخل دولي تعارضه دمشق منذ اليوم الأول، ولا على شكل إقامة مناطق آمنة تريدها أنقرة منذ بداية الحرب، بسبب الأزمة المفتوحة بين البلدين، كما أن الموافقة على هدنة تشمل "النصرة" لا يمكن أن يحصل بأي شكل من الأشكال، بسبب صعوبة إلزامها بها من جهة، بالإضافة إلى عدم القدرة على تجاوز تصنيفها كمنظمة إرهابية من جهة ثانية.
من هذا المنطلق، يبدو أن الحل الأقرب قد يكون، بحسب ما تشير بعض المعلومات، شبيهاً بالسيناريو الذي حصل قبل أشهر، عندما كانت تركيا تريد إقامة منطقة أمنة في الشمال السوري، تحت عنوان محاربة "داعش" وقوات "حماية الشعب الكردي"، حيث تم فرض إعادة إنتشار على الفصائل المعارضة، تم بموجبه إنسحاب عناصر الجبهة من المناطق التي تريدها أنقرة بشكل سلمي، لا بل "النصرة" نفسها أصدرت بيانا إعلامياً يومها أعلنت فيه تسليم مقراتها إلى فصائل أخرى، إلا أن هذا لا يعني إنهاء الأزمة بل تأجيلها بعض الوقت، حيث من الممكن أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه سريعاً.
من خلال هذا السيناريو، لن تكون دمشق قادرة على الإستمرار في المعركة، على إعتبار أنها ستكون ضد فصائل مشمولة في نظام الهدنة، المحصنة بموجب الإتفاق الأميركي الروسي، في المقابل ستلتزم فصائل المعارضة بالإمتناع عن فتح أي معركة، تحت طائلة الوضع على قوائم المنظمات الإرهابية، لا سيما أن الفصيلين الأبرز فيها، أي حركة "أحرار الشام" و"جيش الإسلام"، مهددان بالإنضمام إلى "النصرة" و"داعش"، ما يعني إحتمال تجميد الأوضاع في حلب، ولكن هل ستوافق الجبهة على هذا السيناريو الذي سيكشف حقيقة إلتزامها بقرارات خارجية، رغم أن المعطيات على أرض الواقع تؤكد العكس؟
في المحصلة، لا تزال الأوضاع في مدينة حلب معقدة إلى حد بعيد، لا يمكن التكهن بالصورة التي ستكون عليها في الأيام أو الساعات المقبلة، لكن الأكيد أن قيادة "النصرة" الفصائل المقاتلة فيها عنصر أساسي في الأزمة الحالية، في حين أن الهدنة اليوم قد تعطي القوى المعارضة الحافز من أجل الإنطلاق بهجمات أكبر، في ظل مساعي إعادة الهيكلة التي تقوم بها الجهات الداعمة لها.