عندما سقط الاتحاد السوفييتي كان من الفطانة والمنطق التفكير بمتاعب الدول العربيّة المتحالفة معه وتوقّع سقوطها المماثل، لكن هذه المعادلة تفتقد الكثير من المنطق السياسي لدى تطبيقها على الدول العربية المتحالفة مع أميركا أو الغرب عموماً. لهذا لا أرى من المنطق، ولا أعرف كيف نصنّف تلك الاجتهادات والتناقضات السياسية والإعلامية التي رافقت وأعقبت زيارة الرئيس باراك أوباما الأخيرة إلى السعودية واجتماعه إلى زعماء دول الخليج.

قبل الغوص في هذه الانقسامات في الرأي، يفترض القول إنّ منطق العلاقات بين الدول في العلوم السياسية لا يعرف القطيعة النهائية والتحوّل من خانات الصداقة إلى خانات العداوة، كونه منطقاً محكوماً بالمصالح والغيرة والاقتداء والأفخاخ ودمغة ديمومة العلاقات التاريخية والأسرار. وعندما تختلف الدول الصديقة فيما بينها حول مسألة معينة أو تتناصح أو تتعارض، علينا ألا ننسى قطعاً حجم وأهمية التراكمات الإيجابية التي تتجاوز أحياناً المصالح العامة بين هذه الدول بل تتجاوز أمزجة رؤساء هذه الدول. لذا ليس العلم أو المنطق السياسي ولا من اللطافة العربيّة تلك الموجة التي تجتاح بعض العقل العربي في تحليلاته حسماً لعداوة ، وهي ليست عداوة بقدر ما هي سوء تفاهم أو عدم تقاطع بين النظرة الأميركية والنظرة العربية إلى «الثورات» العربية وتداعياتها الحادّة والقاسية ، تعصف ببلدانٍ محددة بينما نراها أقلّ قساوة وليونة في بلادٍ عربية أخرى. وهنا لا بد من سؤال شديد الأهمية.

لماذا انحصر الدمار وتتفاقم المعضلات واستراتيجيات التفاوض أو أفكار الحلول في العراق وسوريا وليبيا واليمن تحديداً لتصل كما هو ظاهر أحياناً إلى حدود المستحيلات؟ لأن سقوط الاتحاد السوفييتي كان يعني سقوط حلفائه. هذا السؤال لم يحظ بالكثير من الاهتمام بهويات هذه الدول السياسية ومعها مصر تاريخياً. كانت عبر تواريخها المعاصرة روسية السياسة ، والإيديولوجيا أدمنت التوجّه نحو الشرق وتحديداً نحو روسياّ والصين. لم تكن مصداقية تلك الدول المعاندة والرافعة أصابع الرفض كبيرةً في وجدان الغرب لأنّ تحالفاتها الروسيّة كانت تبدأ بالسلاح ولا تنتهي في الثقافة والتربية والاقتصاد ونسج المستقبل، كانت تصب في مصلحة العظمة الشرقية. بالمقابل كانت الدول العربيّة الأخرى، على ارتباط وثيق بالولايات المتحدة والغرب عموماً.

أفكر هنا بعامل حاد عجّل من إسلامية تركيا والبلدان العربية الإسلامية بما يتجاوز كارثة 11 سبتمبر وتفجير البرجين، هو يقظتها على غفلة، لتكتشف، بعد 9 تشرين الثاني 1989 عند انهيار جدار برلين، يقظة المسيحية المكبوتة من حولها في بلدان المنظومة الاشتراكية وأوروبا الشرقية المتطلعة مجدداً نحو الغرب، والتي راح أهلها يدخلون الكنائس البيزنطية المهجورة راسمين إشارة الصليب وخالعين الثوب الماركسي البالي الإلحادي الذي ارتداه الاتحاد السوفييتي عنوة لسبعة عقود، فيستبدلونه بالجينز الأميركي والهمبرغر والكوك وكل ما طالته أيديهم من مباهج الغرب. كان انهيار برلين محطة التغيير العارم على مستوى العالم بسرعة نحو ألفية ثالثة. وسمع العالم في صوت الانهيار صلوات البابا ​يوحنا بولس الثاني​ البولوني الأصل ونبراته الحادة في إضاءة الكنائس في العالم وقرع الأجراس في أقاصي آسيا. كانت لحظة حملت أيضاً تاريخاً من الحروب والاستراتيجيات الخفية الأميركية والغبطة الغربية بسقوط الاشتراكية ومحاولة تعميم العظمة الأحادية على العالم. تفرعت الدروب الوعرة في السياسة العالمية في الزمن الذي أزيلت فيه الحدود عبر دروب التواصل التقني الذي أخرج البشر والمجموعات من جغرافياتهم وتواريخهم ليرميهم في الفوضى المنظّمة العارمة بحثاً عن هوياتهم المستقبلية. صرت تجد نفسك منقاداً على الدروب نحو أقاصي شرقي آسيا وشمالها وجنوبها عبر تركيا وإيران وصولاً إلى كوريا الشمالية والهند واليابان لتعبر ، في استراتيجيات دروبٍ شبه خيالية، القطب المتجمّد الشمالي لتفتح فيه الطرق والممرات بالتعاون مع روسيا تنقل الطاقة ومشتقاتها من بلاد قزوين نحو الدنمارك وأوروبا الغربية. وكل ذلك كان بهدف تضخيم المناخ الذي يجعل بلدان النفط أكثر خوفاً وتوجساً. هكذا وعرت بعض دروب العبور التقليدية نحو أوروبا الغربية المتوثبة مسيحياً، وخصوصاً من باب اللاجئين المسلمين ، وفي رأسهم السوريون عبر الباب التركي، بعدما حالت شيخوختها من دون الاستعجال بإعادة ترتيب أوضاعها كمنظومة أو كمركز استقطاب للدبلوماسيّة العالمية تعويضاً عن ماضيها العسكري والحضاري. وبرزت أميركا عسكرياً في الخليج والقواعد المتوسطيّة نحو أفغانستان والعراق في حروب استباقيّة أظهرت تضاريس نفسية وثقافية ومسيحية بين العوالم العربية والإسلامية والغربية على تنوعها.