- للخائفين من تردّد روسي في التفاوض مع الأميركي مع بلوغ الحرب في حلب مرحلة الذروة وبلوغ التفاوض نقاط الحسم، من المفيد لاستقراء الموقف الروسي إضافة إلى قراءة المواقف الثابتة القوية المعلنة تجاه «جبهة النصرة» والتوغل التركي، التساؤل عن مترتبات التراخي التفاوضي من طرف موسكو على مكانتها ومصالحها، وما حققته منذ تموضعها العسكري الوزان والحاسم في سورية حتى الآن. فما هو المعروض على موسكو لإعادة صياغة التسوية والتفاهمات؟

- ليس لدى واشنطن ما تعرضه سوى ما يضعه اليأس التركي السعودي من سقوف لآخر حروبهما وعنوانها حرب «النصرة»، الهادفة لفرض أمر واقع باقتطاع شمال سورية وجعله متصلاً بتركيا، رافعاً علم «جبهة النصرة» أو «جيش الفتح»، اسمها الثاني، ومن حول «النصرة» تجتمع التشكيلات المسلحة المدعومة من تركيا والسعودية، «أحرار الشام» و«جيش الإسلام»، وأمامها واجهة سياسية اسمها جماعة الرياض، والتفاهم المتاح معلن ونقله وزير الخارجية الأميركي جون كيري، وهو ضمّ «النصرة» إلى الهدنة، وفتح سقف التفاوض السياسي ليطال مجدّداً مصير الرئاسة السورية.

- واقعياً القبول الروسي بهذه الطلبات يعني كلفة أعلى من كلفة الحرب، لأنّ انتصارهم في الحرب سيمنحهم كانتوناً في شمال سورية يشبه كانتون «داعش» في شرقها، لكن بلا شرعية وبلا قدرة على تفخيخ مستقبل سورية، بدولة مفدرلة مفتتة على أساس مذهبي، يتولى فيها تنظيم «النصرة» حراسة الاحتلال في الجولان، ويقيم له حزاماً أمنياً، ويندمج الوهابيون بمؤسسات الدولة أملاً بأن يصيروا هم الحزب الحاكم وعقيدتهم هي عقيدة الدولة، حيث لا مكان للتعدّد السوري، ولا مكان لعيش طبيعي بين مكونات الشعب السوري، وسيعني القبول تراجعاً روسياً عن كلّ مكتسبات ما بعد التموضع العسكري وعودة إلى ما هو أبعد بكثير عما كان قبل هذا التموضع، حيث كانت الحرب محكومة بتوازن سلبي، لكن بلا تكريس لشرعية الإرهاب بصك براءة دمجه في العملية السياسية. التراجع الروسي اليوم يعني العودة إلى روسيا قبل العام 2000، في زمن يلتسين، ونهاية مفجعة للتضحيات التي بذلها الروس خلال خمس سنوات وذاقوا طعم نتائجها انتصارات لا جدال حولها.

- القبول الأميركي بالطلبات الروسية أقلّ كلفة على أميركا من كلفة روسيا إذا تراجعت، فواشنطن سلكت طريق التأقلم مع التسويات منذ تفاهم الحلّ السياسي للسلاح الكيميائي ومن بعده التفاهم النووي، وصار حول سورية تفاهمات تملك واشنطن الانطلاق منها للسير بوضعها سقفاً للحرب إنْ لم يستجب الحلفاء المتعنّتون بتحالفهم مع «النصرة»، وقبض الثمن حرباً ينتصر فيها حزب الرئيس على «داعش» ويقدّمها هدية لناخبيه، روسيا لديها الكثير ستخسره إنْ تراجعت، وأميركا لديها خسائر وأرباح إنْ صمدت على خط التفاهمات، وحريّ أن نسأل هل تملك موسكو قدرة التراجع عن التفاهمات تجاه حلفائها، ومَن سيسهّل لها إدماج «النصرة» بالتفاهمات؟

- المطلوب من واشنطن لتنطلق مسيرة التفاهم موقف، والمطلوب من موسكو لتلاقي واشنطن عند المفترق أن تنتحر، ولذلك يخطئ من يظن أنّ الأمور ستسير بغير اتجاه التأقلم الأميركي بعد طول تردّد، ونطق الكلمة الذهبية، الحرب في حلب مع «النصرة»، و«النصرة» ليست مشمولة بالهدنة، وهي سبق وقالت ذلك مرة بلسان الناطق العسكري لتحالف الحرب على «داعش» الكولونيل ستيف وارن قبل أسبوع، وقاله البنتاغون بخجل يوم أمس، وسيقولونه بوضوح عندما يبدأ الميدان بقول ما سبق وقاله قبل ولادة التفاهمات.

- معادلات الأمن القومي الروسي فوق الاعتبارات الأخلاقية تقول، إنّ موسكو تنتحر عندما ترتضي بتقسيم سورية وبكانتون تركي في شمالها، لأنّ موازين القوى سبق واختبرت وتقول العكس، ولأنّ التتمة ستكون على حدود روسيا الجنوبية، وأمن موسكو يبدأ في دمشق، كما قالت ذات يوم القيصر كاترين الثانية، وها هي تركيا تتضعضع!