مع انتهاء المرحلة الثانية من ​الانتخابات البلدية​ والاختيارية، والتي كان مسرحها جبل لبنان، حمل يوم امس بصمات واضحة لجهة حصول تغييرات لا يمكن التغاضي عنها في الصورة الجديدة للاستحقاق الانتخابي الوحيد الذي مارس اللبنانيون حقهم في الادلاء بصوتهم فيه منذ العام 2010، بعد التمديد الذي لحق بمجلس النواب.
المرحلة الثانية كرّست فكرة معروفة وهي ان النكهة المسيحية هي التي تضفي على الانتخابات لمحة مميزة، وهو ما ظهر بوضوح في المرحلة الاولى في زحلة، وفي المرحلة الثانية في كل مناطق جبل لبنان. نسب مشاركة مرتفعة، ونشاط غير طبيعي وتنافس شديد كاد ان يصل الى حد الخلاف والاختلاف، ولكن كل ذلك يجري تحت سقف الرعاية الأمنيّة المُحكمة التي يتولاها الجيش وقوى الامن.
من البديهي القول ان هذه الحركة المسيحية الناشطة، سببها منذ زمن عدم وجود مرجعية سياسية واحدة على غرار الطوائف والمذاهب الاخرى (تيار المستقبل لدى السنّة، حزب الله وامل لدى الشيعة، الحزب الاشتراكي لدى الدروز...) فانقسام الناس بين الاحزاب المسيحيّة جعلها توسع خياراتها في الانتخابات البلدية والنيابية على حد سواء، ناهيك عن انه في البلديات، تدخل عناصر فاعلة على الساحة على غرار النائب ​ميشال المر​ الذي قد تكون قدرته النيابية تراجعت بعض الشيء الا ان حضوره البلدي لا يزال فاعلاً، وتفاهم النائبين السابقين منصور البون و​فريد هيكل الخازن​، والحضور الكتائبي في عدد من المناطق.
انتخابات جبل لبنان وخصوصاً في "المناطق المسيحية" كانت هذه المرة على موعد جديد، وهو "جس نبض" حقيقي للتحالف القواتي-العوني الذي خطا خطواته الاولى الرسميّة ميدانياً في انتخابات زحلة، ولمعرفة مقدار ما سيسجله هذا "التسونامي" على مقياس البلديات. ولكن، وعلى الرغم من الطابع السياسي المحض الذي اعطي للانتخابات البلدية، بدا واضحاً ان الثمرة الاولى لم تكن ناضجة كفاية، وان حسابات الحقل لم تطابق حسابات البيدر، ولم يكن هذا "تسونامي" بالمعنى الحقيقي للكلمة واتى على عكس الوصف الذي اطلقه رئيس "اللقاء الديمقراطي" النائب ​وليد جنبلاط​ على رئيس تكتل "التغيير والاصلاح" العماد ميشال عون عندما خاض الانتخابات ضد ​التحالف الرباعي​ في العام 2005.
اسباب كثيرة أدّت الى عدم نضوج هذه الثمرة في الحقل البلدي، منها "ضياع" المحازبين بعد تعدد المواقف الحزبية وانقلابها 180 درجة، ومنها الاعتبارات العائلية التي جعلت البيوت تنقسم على بعضها، ومنها الحساسيات الشبابية التي ادت الى انشقاقات بين القوات والعونيين من جهة وبين الصف الواحد في كلا الحزبين. ولعل ابلغ دليل على ذلك، "البروفة" التي حصلت في المرحلة الاولى والتي تكرّست بشكل رسمي في المرحلة الثانية في مناطق عدة ومنها على سبيل لا الحصر: الحدث وجونيه، حيث تم الحديث عن مواجهات قاسية بين "المتفاهمين الاثنين" كادت ان تهدّد تحالفهما، الى درجة اضطر رئيس "​القوات اللبنانية​" ​سمير جعجع​ الى التأكيد شخصياً ان التفاهم مع العماد عون اكبر من معركة جونيه، مذكّراً بأن ترشيحه لعون الى الرئاسة اقوى من خلافات بلديّة في بعض المناطق.
أمور عديدة يمكن قولها عن "النكهة" المسيحية للانتخابات، ولكن على خط مواز، كان السنّة يعملون على ما يبدو لإضافة نكهتهم الخاصة. والرسالة التي وجهت لتيار المستقبل في بيروت (رغم فوز التيار المستقبلي) لم تكن يتيمة، فها ان طرابلس مثلاً تخطو على الطريق نفسه الذي سلكته جونيه، والكلام يكثر عن معارك قاسية ستشهدها المدينة في حال لم يتم التوصل الى تسوية او تفاهم بين القوى السنّية ينقذها من انتخابات حادة.
هذه الـ"لا" السنّية لم تكن خجولة وسمع صداها في كل انحاء لبنان، وينتظر ان يصدح صوتها في طرابلس للتدليل على ان التحرك السنّي سيبدأ لكسر أحاديّة تيار المستقبل بفعل الضعف الذي لحق به في الفترة الاخيرة، وتعدّد مساربه وعدم صبّها جميعاً لدى رئيس التيار النائب سعد الحريري، رغم محاولاته العديدة الامساك بالقرار منذ عودته الى بيروت.
اما في ما خص الشيعة والدروز، فبقيت مرجعيتهما معروفة، ولم تسجّل مفاجآت انما "خروقات" بسيطة بنسبة صغيرة، غير كافية للاعلان عن اطلاق الـ"لا" التي لحقت بالسنّة. وحتى اشعار آخر، تبقى الامور "مضبوطة".
قطعت الانتخابات البلدية نصف الطريق، وكان الطعم المسيحي هو الطاغي عليها، وهي ستفتقد الى الحماس والتشويق في الجنوب، قبل ان تعود الحركة الى الشمال ويعود معها الحماس.