مع إنتهاء الجولة الثالثة من الإنتخابات البلديّة والإختياريّة في محافظتي الجنوب والنبطيّة، يتواصل رسم خريطة توزيع وأحجام القوى السياسيّة والحزبيّة والعائليّة المُختلفة في لبنان، علمًا أنّ الدورة الإنتخابيّة الثالثة والتي تضمّنت على جداولها الرسميّة ما مجموعه 852274 ناخبًا شارك نحو نصفهم بعمليّة الإقتراع، تميّزت بإنتخاب أوّل نائب لبناني منذ العام 2009، وذلك لملء مقعد جزّين الشاغر منذ وفاة النائب ميشال حلو في حزيران من العام 2014. وحتى لحظة إعداد هذا المقال فجر الإثنين، كان من المُمكن تسجيل المُلاحظات التالية:

أوّلاً: في الإنتخابات النيابيّة الفرعيّة في جزّين التي إستحوذت على الإهتمام الأكبر من التغطية الإعلامية، نجح المُرشّح أمل حكمت أبو زيد المدعوم من كل من "التيار الوطني الحُر" و"القوات اللبنانيّة" في الفوز بالمنصب النيابي عن قضاء جزين، بفارق كبير بلغ نحو الضعف عن منافسه الأبرز ابراهيم عازار (بمجموع 14653 صوتًا في مقابل 7759 صوتًا لعازار)، نجل النائب السابق سمير عازار، والمدعوم من تحت الطاولة من قبل حركة "أمل" وحزب "الكتائب"(1)إضافة إلى العائلات، علمًا أنّ أصوات كثيرة من مجمل ناخبي القضاء وعددهم 58349 ناخبًا(2)بزيادة نحو 4000 ناخب مُقارنة بدورة العام 2009، ذهبت إلى المرُشّح الثالث قائد الدرك السابق العميد صلاح جبران، في حين لم يتمكّن المرشّح الرابع باتريك رزق الله المُنشقّ عن "التيّار" من تسجيل حيثيّة شعبيّة تُذكر. وكان لافتًا أنّ المُشاركة في الإنتخابات الفرعيّة في قضاء جزين بلغت 53 % أيّ نفس الرقم الذي سُجّل في دورة العام 2009 عندما تنافست ثلاث لوائح كاملة، ما يدلّ على حماومة المُنافسة وعلى رمزيّتها، علمًا أنّ رئيس "التيار" جبران باسيل حرص على التوجّه إلى جزين للإحتفال بالفوز.

ثانيًا: في الإنتخابات البلديّة، فازت لائحة "نحنا لجزيّن" برئاسة خليل حرفوش، والمدعومة من "التيّار والقوات"، بمواجهة لائحة "الإنماء أوّلاً" برئاسة نادر ابو نادر، والمدعومة من عازار و"الكتائب" علنًا، ولو أنّ العوامل والإعتبارات العائليّة والخدماتيّة جعلت هذا الفوز أقلّ بُروزًا مُقارنة بحجم الفوز النيابي، بحيث سُجّل خرق محدود وتقارب أكبر على مُستوى الأرقام مقارنة بالإنتخابات النيابيّة.

ثالثًا: في صيدا حيث يبلغ عدد الناخبين أكثر من 60000، سعى "تيار المُستقبل" لتحقيق هدفين، الأوّل فوز اللائحة التي يدعمها، أي لائحة "إنماء صيدا" برئاسة محمد السعودي، والثاني إظهار إستمرار إمساكه بأغلبيّة أصوات الشارع السنّي. وهو نجح في تحقيق هذين الهدفين، حيث ربحت لائحة السعودي المدعومة من "المستقبل" و"الجماعة الإسلاميّة" بمُساعدة أيضًا من رئيس البلديّة السابق عبد الرحمن البزري، على كل من لائحة "صوت الناس" برئاسة بلال شعبان والتي دعمها "التنظيم الشعبي الناصري" و"اللقاء الوطني الديمقراطي"، ولائحة "أحرار صيدا" برئاسة علي الشيخ عمّار التي تُمثّل "الإسلاميّين المُتشدّدين". يُذكر أنّ "تيّار المُستقبل" حرص على مد يده إلى "الجماعة الإسلاميّة" والإستجابة لمطالبها بعد تنامي نُفوذها شعبيًا، وذلك حرصًا منه على ضمان كسب المعركة، وكذلك بهدف إقفال الطريق على "الإسلاميّين المُتشدّدين". كما بلغت نسبة التصويت في صيدا 44 %، وهي بالتالي أفضل بكثير من النسبة التي سُجّلت في بيروت، من دون أن نتجاهل أنّ تعدد اللوائح وحماوة المنافسة رفعت عدد المُشاركين بطبيعة الحال.

رابعًا: حاول "الحزب الشيوعي اللبناني" عبر قراره خوض معارك إنتخابيّة في أكثر من ستّين قرية جنوبيّة في مواجهة اللوائح الإئتلافية لكل من "حزب الله" و"حركة أمل"، إحداث خرق في هذه الثنائيّة، متحالفًا مع شخصيّات عائليّة محليّة في بعض الأماكن مثل بنت جبيل وكفرمان، ومع ناشطين من "المُجتمع المدني" في أخرى مثل النبطيّة وصور، لكنّ النتائج المُحقّقة كانت ضعيفة ومحدودة. ومن بين الأمثلة على هذه النتائج المتواضعة، الفوز الذي حققته في كفرشوبا اللائحة المدعومة من النائب أنور الخليل والعائلات على اللائحة المدعومة من "حزب الله" والأحباش. كما فاز الحزب الشيوعي مدعومًا من العائلات في الهبارية على لائحة "الجماعة الإسلاميّة"، وسجّل خروقات محدودة في الطيبة والعباسية، إلخ.

خامسًا: في مغدوشة حيث يُوجد نحو 4000 ناخب أغلبيتهم الساحقة من الروم الكاثوليك، فازت "لائحة القدرة والفعل معًا" برئاسة نجل رئيس البلدية رئيف يونان، المدعومة من النائب ميشال موسى والعائلات، على لائحة "مغدوشة بتجمعنا" برئاسة غازي أيّوب المدعومة من "التيار" و"القوات" والعائلات، في دلالة على أنّ الكثير من مسيحيّي الأطراف ما زالوا يعيشون تحت سطوة معنوية لأغلبيّة عدديّة محيطة، من دون أن ننسى عامل شخصيّة رئيس البلديّة المعنيّ، وعامل الخدمات على مدى سنوات وعقود من سيطرة قوى ونوّاب الأمر الواقع. لكن في قرى وبلدات مسيحيّة أخرى، تحرّر الناخب المسيحي من هذه السطوة المعنويّة المُتراكمة، ونذكر مثلاً الفوز الذي تحقّق في بلدة "لبعا" للائحة المدعومة من "القوات" برئاسة فادي رومانوس، إضافة إلى الربح الذي تحقّق في كل من أنان والميدان وعازور، إلخ.

سادسًا: نجح تحالف "حزب الله" و"حركة أمل" في إثبات تفوّقه المُستمر في المناطق حيث الثقل الإنتخابي هو للناخبين الشيعة، وتمكّن هذا التحالف من الفوز بأغلبيّة القرى والبلدات التي جرت فيها معارك إنتخابيّة، إضافة إلى تلك التي كانت نتائجها حُسمت بالتزكية، علمًا أنّ لوائح "العائلات" حقّقت نتائج محدودة جدًا، واللوائح المدعومة من ناشطي "المُجتمع المدني" لم تتمكّن من تحقيق أيّ ربح مهم، وإكتفت بتسجيل أصوات إعتراضيّة هنا أو هناك. وعلى الرغم من تعاطي "الحزب" و"الحركة" بروح إستيعابيّة للحركة الإعتراضية في البيئة الشيعيّة تحت العنوان الإنمائي وليس السياسي، كما حصل في البازورية (مسقط رأس أمين عام حزب الله) وجويا وحومين الفوقا على سبيل المثال، سُجّلت بعض السقطات غير المُبرّرة، منها ما حصل من إطلاق نار وشغب بعد الفوز الجزئي للائحة رجل الأعمال قاسم حجيج بوجه تحالف "الحزب–الحركة" في بلدة "دير انطار"، وما حصل من فوضى في القليلة بعد الخرق الكبير الذي سجّلته اللائحة المنافسة برئاسة محمود أبو خليل.

سابعًا: في حاصبيا وفي المناطق ذات الحُضور الدرزي الكبير، جاءت النتيجة مُشابهة لما حصل في الشوف، حيث أثبت "الحزب التقدّمي الإشتراكي" إستمرار تفوّقه شعبيًا في القرى والبلدات الدرزيّة، علمًا أنّه إعتمد في معاركه الإنتخابيّة هذه المرّة أسلوبًا ليّنًا وسلسًا مُتجنّبًا الصدامات والتحدّيات الكبيرة. وحلّ "الحزب الديمقراطي اللبناني" في المرتبة الثانية درزيًا، بينما بقي حجم حزب "التوحيد العربي" محدودًا ومحصورًا في بقع جغرافية صغيرة.

في الخلاصة، يُمكن القوّل إنّ تحالف "التيار-القوّات" يسير بشكل جيّد وتصاعديّ على الرغم من مُحاولات إفشاله المُستمرّة، وقد بيّنت نتائج إنتخابات جزين متانة هذا التحالف وقوّة شعبيّة "التيار الوطني الحُر". كما أنّ تحالف "حزب الله-أمل" لا يزال صلبًا وغير قابل للخرق، على الرغم من تكاثر الأصوات الإعتراضيّة من بيئته الشعبيّة بالنسبة إلى الثغرات الإنمائيّة. وفي ما خصّ "تيار المُستقبل" فإنّ نتائج صيدا منحته دفعًا معنويًا بعد الإهتزازات التي تعرّض لها في بيروت بشكل خاص، وأظهرت أنّه لا يزال يُمسك بالشارع السنّي إلى حدّ كبير. وفي البيئة الدرزيّة، تمكّن "الحزب الإشتراكي" من إثبات حُضوره المُستمرّ، مع إفساح المجال بشكل سلس لحضور "التيّار الأرسلاني".

(1)رئيس مجلس النواب نبيه برّي كان أعلن أنّه لن يدعم أيّ مُرشّح، وحزب "الكتائب" كان موقفه متأرجحًا بين دعم أبو زيد أو ترك الخيار للناخبين في البداية، علمًا أنّه تحالف بقوّة بلديًا مع اللائحة المدعومة من قبل عازار، ومُحازبوه أسقطوا ذلك على الإنتخابات النيابيّة.

(2)يُشكّل الموارنة النسبة الأكبر من الناخبين، وتحديدًا نحو 62 %، إلى جانب الروم الكاثوليك الذين يُشكّلون نحو 15 %، في مقابل نحو 20 % للشيعة، والنسبة الباقية أي نحو 3 % موزّعة على الناخبين السنة والدروز ومختلف مسيحي.