يفترض باليساريين في لبنان أن يكونوا شاكرين لنائب رئيس مجلس الوزراء الأسبق، عصام فارس. فقد فعل الأخير بعد 10 سنوات من مغادرته لبنان ما عجزت عنه كل المؤتمرات والاجتماعات والخلوات: وحّد يساريّي إحدى القرى، لا شيوعييها فقط، في لائحة واحدة. وأضيفت إلى المعجزة معجزة تحالف من يفترض أنهم شيوعيّون مع من يفترض أنه إقطاعي، وتآخٍ في لائحة تنافس لائحة رئيس المجلس البلديّ ومدير أعمال فارس في لبنان سجيع عطية. ولا تكتمل غرابة هذا المشهد الانتخابي إلا بسماع عطية يتذمر من المال الانتخابي

خلف بضع تلال خضراء تتربع رحبة، أكبر بلدات لبنان الأرثوذكسية التي يتوسط منازلها مسجد، يجتمع القوميون والشيوعيون والعونيون والكتائب والقوات وغيرهم قبالته يومياً للشروع في نقاش سياسي يطول ساعات.

وقد طُليت المنازل المحيطة بهؤلاء بلون أبيض واحد على غرار الجزر اليونانية، فيما بدأ كثيرون سقف أسطح منازلهم بالقرميد في انتظار تبني البلدية المقبلة للمشروع الذي يكرس طابع البلدة القروي، في ظل إعداد أحد الشوارع ليكون سوقاً شعبياً، وبدء تدفق المصارف لافتتاح فروع في ما يمكن وصفه بعاصمة منطقة الجومة العكارية ومركزها التجاريّ المقبل. ومن شرفة إلى أخرى، تتنافس الورود على كسب ودّ فصل الربيع، فيما يقع الزائر على طريق هنا وآخر هناك مرصوف بالحصى وتحيط به جدران حماية حجرية من جهة وأشجار من الجهة الأخرى على نحو يجعل الزائر يحلم ببيت صغير في آخر هذه الأحراج. لكن الهدوء الذي تنعم به البلدة يتبدد فور السؤال عن انتخاباتها البلدية: مرة مجابهة الإقطاع هي العنوان، ومرة الصراع اليميني ــ اليساريّ، ومرة الإيماني ــ الإلحاديّ، ومرة الأرثوذكسي ــ الشهود يهوي، يضاف إليهم صراع أول من نوعه ربما بين المال الانتخابي والخدمات. زائر رحبة يحتاج أكثر من ثلاثة آلاف أذن وهو العدد المتوقع للمقترعين الذين يحمل كل منهم وجهة نظره الخاصة.

رحبة هي حجر الزاوية في معقل عصام فارس العكاريّ، وهي في الوقت نفسه بلدة النائب المستقبلي السابق عبد الله حنا الذي ورث النيابة عن والده رؤوف حنا قبل أن يتجاهل ضابط الوصاية السورية بيتهم ويحاصر لاحقاً عصام فارس نفوذهم، من دون أن يتمكن حنا خلال نيابته بين 2005 و 2009 من إعادة أمجاد والده الغابرة. وهي أيضاً بلدة نقيب المعلمين في المدارس الخاصة نعمة محفوض، وبلدة الأمين العام للحزب الشيوعي حنا غريب الذي انطلق من بلدته في تجربة جمع الحزب الشيوعي وحركة الإنقاذ واليسار الديموقراطي وغيرهم من المجموعات الشيوعية الصغيرة تحت مظلة واحدة أطلق عليها «اليسار البلدي للتنمية». ونجحت هذه المظلة باستقطاب عدة قوميين سوريين اجتماعيين أيضاً. وسرعان ما تحالف «اليسار البلدي» مع حنا لترشيح رجل الأعمال فادي بربر الذي غاب في أفريقيا أكثر من عشرين عاماً، يحاول بعدها العودة إلى بلدته من بوابة المجلس البلديّ، متسلحاً بالمال أولاً وأصدقائه الشيوعيين النافذين في البلدة ثانياً، وتطلع حنا منذ سنوات إلى فرصة خوض معركة متكافئة في رحبة ثالثاً. وهكذا بدأت للمرة الأولى منذ 2004 معركة جدية تلوح في الأفق.

الشيوعيون لا يحتكرون المشهد الحزبي في البلدة حيث الأكثرية العونية تدور في فلك نائب رئيس البلدية جان فياض

رحلة عطية مع المجلس البلدي بدأت عام 1998 حين كان واحداً من الشباب الذين وصفوا يومها بالفرسان الخمسة. ومع بروز فارس لاحقاً، تبنى الأخير رئيس بلدية رحبة جارة بلدته بينو، وما عاد يُرد لعطية طلب. الأمر الذي دفع حنا إلى تجاوز خصومته السابقة مع يساريّي البلدة والتحالف معهم للإطاحة عبثاً بعطية الذي فاز بفارق كبير، وبدا عام 2010 في موقع قوة يخوله اقتراح توافق يرضي الجميع بمن فيهم الشيوعيون وحنا. لكن مع بروز ثروة مالية قادرة على تأمين مزاحمة مالية لماكينة عطية الخدماتية، باتت المعركة أمراً واقعاً. ومقابل إنجازات عطية الكثيرة هناك دائماً حفرة مهملة أو مطب يزعج جيرانه أو حائط دعم أصغر من حائط دعم في حي آخر أو ملاحظات لم يؤخذ بها أو ثأر عائلي عمره أكبر من عمر البلدية أو سياسي أو طموح مشروع بتجربة الجلوس على الكرسيّ الذي جلس عطية عليه 18 عاماً. في ظل تكرار بربر في تصريحاته الإعلامية الحديث عن أهمية احترام المجلس البلدي للقوانين وتقديم الخدمات لجميع المواطنين دون استثناء وعدم استغلال السلطة لمصالح انتخابية. وسط معلومات عن تحرك بربر في أكثر من بلدة عكارية. علماً أن بربر وعطية التقيا، وبعد حديث بربر عن أهمية تداول السلطة اقترح رئيس المجلس البلدي أن يأخذ بربر رئاسة المجلس ويترك له رئاسة اتحاد بلديات الجومة، إلا أن بربر رفض جميع الاقتراحات التوافقية، مؤكداً لمحاوره أن تاريخ صلاحيته انتهت. والواضح في هذا السياق أن بربر والشيوعيين يفترضون أن انسحاب فارس من المشهد يبقي عطية من دون مظلة معنوية أو مالية. إلا أن التدقيق في هذه المعلومة عند المحيطين بفارس يبين العكس تماماً، رغم تأكيد عطية أنه يملك «كريديت كارت»، فيما يملك الأخير مصرف الـ»كريدي بنكير».

مع العلم أن الشيوعيين لا يحتكرون المشهد الحزبي في البلدة حيث الأكثرية العونية تدور في فلك نائب رئيس البلدية جان فياض (مسؤول البلديات في عكار في التيار الوطني) المرشح على لائحة عطية، يليهم القوميون أيضاً الذين يحظون بعدة مرشحين على لائحة عطية، منهم عضو المجلس الأعلى رياض نسيم، وهناك ثالثاً الكتائبيون الذين يرشحون رئيس قسم رحبة على لائحة عطية، فيما أصدرت القوات اللبنانية بياناً قالت فيه إنها تركت حرية الاقتراع لناخبيها في البلدة وترشيح أحد القواتيين على لائحة عطية يجري بصورة شخصية، حالهم في ذلك من حال حركة الشبيبة الأرثوذكسية التي قالت إنها تقف على الحياد، رغم ترشيح أكثر من «حركيّ» على لائحة عطية. وتضم لائحة عطية أيضاً ممثلاً لأبناء الطائفة السنية في البلدة الذين يبلغ عدد مقترعيهم عادة 150، إضافة إلى ممثلين عن العائلات الكبيرة في رحبة مثل الخوري والبايع.

وعليه ينتظر أن تشهد رحبة معركة كبيرة بين عطية وحنا، وخلفهما الشيوعيون الموحدون من جهة والعونيون والكتائب والقوميون من جهة أخرى، وهي من أبرز المعارك البلدية في عكار. وسيحضر بقوة الصراع غير المسبوق بين الخدمات المتراكمة خلال سنوات، ومال اللحظة الانتخابية الأخيرة.

البلدية الأولى في لبنان

يكدس رئيس المجلس البلدي في رحبة سجيع عطية المشاريع أمامه: «أثبتنا أن البلدية أكثر من حراسة وكناسة، إنما مؤسسة اجتماعية واقتصادية قائمة بذاتها. نحن أول بلدية تنشئ مختبر فحص دم مجاني للمقيمين في رحبة. وأول بلدية تؤمن البطاقة الصحية التي استحصل 700 رحبي عليها ليس لديهم ضمان اجتماعي وغير مسجلين في تعاونية الموظفين تؤمن لحاملها استشفاءً مجانياً في كل مستشفيات لبنان من دون استثناء. وحامل هذه البطاقة يحصل على ألف دولار هدية عند الزواج، وتتكفل البلدية بكل مصاريف الوفاة. وأول بلدية تؤمن عبر أحد المغتربين المولدات الكهربائية اللازمة وإدارتها لتوزيع الكهرباء بسعر التكلفة (150 ليرة سعر الكيلو)، إضافة إلى إنارة البلدة 24 على 24.

ويضاف إلى ذلك تأمين البلدة سبعة عشر عنصر شرطة وتطبيق نظام حراسة ليلية، وإنشاء معمل لتوضيب الفواكه والشنكليش لشراء إنتاج الأهالي وتأمين سوق له، وتدريب 25 سيدة مع برنامج للاتحاد الأوروبي على فرز النفايات، وإدارة حضانة أطفال بالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية تستقبل أكثر من 40 طفلاً، ومركز طوارئ ليلي يضم طبيباً وسيارة إسعاف وسائقاً، وعيادة طب أسنان، ومركز تصوير إشعاعي، وتوزيع دوري للنصوب والشتول، ونادي سينما ومسرح يتسع لـ 350 شخصاً، وباصات لنقل الأهالي والطلاب من بيروت وإليها، وشبكة الطرقات الزراعية. إضافة طبعاً إلى آلاف المنح التعليمية.

وبعد نجاحه في تحقيق وعوده السابقة، يعد عطية اليوم بتخصيص شارع للمشاة في البلدة يكون شبيهاً بسوق جبيل من حيث المتاجر والمطاعم وجذبه أهالي البلدة والقرى المجاورة لتوفير حركة سياحية وتجارية في البلدة، إضافة إلى مشروع سكني ضخم يتمثل بتأمين 100 وحدة سكنية، مساحة الوحدة مئة متر، بسعر 30 ألف دولار يمكن تقسيطها مئة دولار شهرياً. وهو مشروع يؤمّن لكل مقيم في بيروت وكل مغترب شقة صغيرة في بلدته يعلم أن بوسعه التوجه إليها حين يشاء ذلك. إضافة إلى ضمان الشيخوخة الذي يؤمن عبر مجموعة ضرائب بلدية راتباً شهرياً متواضعاً لكل المسنين وبيت راحة.