لا يخفى على أحد أنّ "تيار المستقبل" لم يكن متحمّساً للانتخابات البلدية والاختيارية، ويُحكى الكثير عن مساعٍ بذلها مع آخرين تحت الطاولة لتأجيلها أو إلغائها، لاعتباراتٍ كثيرة، وعلى رأسها الأزمة المالية التي يتخبّط فيها، كما الخشية على "الشعبية" الآخذة في التراجع والأفول.

وعلى الرغم من الفوز الذي حقّقه في بيروت وصيدا، والذي يترقّبه في طرابلس، فإنّ "المستقبل" لا يبدو شديد الارتياح لمجريات المعركة، لا شعبيًا ولا سياسياً، بل إنّ علامات استفهامٍ من الطراز العالي تُطرَح حول ما إذا كان "القطوع" قد مرّ فعلاً على خير، أم أنّ "تداعياته" ستفوق القدرة على التحمّل...

خياران أحلاهما مُرّ؟!

منذ اليوم الأول، حرص "تيار المستقبل" على تكذيب كلّ ما كان يُحكى عن "نوايا مضمرة" لديه بتأجيل ​الانتخابات البلدية​ والاختيارية، رغم توافر كلّ "المقوّمات" التي من شأنها دفعه لذلك، وفي مقدّمها الأزمة المالية المعروفة، التي منعته من ممارسة "الإنفاق الانتخابي" كما اعتاد، خصوصًا أنّ استحقاقاً انتخابياً "بسيطاً" يكلّف في العادة مصاريف هائلة.

لكنّ الأزمة المالية لم تكن مصدر "القلق" الوحيد بالنسبة للتيار "الأزرق" من الانتخابات البلدية، فالتقارير الكثيرة عن تراجع شعبية التيار بفعل "غربة" رئيسه ​سعد الحريري​ الطويلة عن لبنان وعن ابتعاد الكثير من مناصريه عن خطه السياسي بعد اتهامه بـ"خيانة الثورة"، خصوصًا بعد تبنّي ترشيح رئيس "تيار المردة" النائب سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، كلّها عوامل ساهمت في تعزيز "المخاوف" من انتخابات قد تضرّ أكثر ممّا تنفع.

ولأنّ أحداً لم "يتجرّأ" على تحمّل مسؤولية تأجيل الاستحقاق بعكس ما حصل إزاء الانتخابات النيابية، ولم يكن وارداً لـ"المستقبل" تجرّع مثل هذه الكأس المُرّة، خصوصًا أنّ وزارة الداخلية المعنيّة بتنظيم الانتخابات هي من "حصّته" في الحكومة "السلامية"، وجد "المستقبليّون" أنفسهم في قلب "المعركة"، فكان الخيار "الأقلّ مرارة" بالنسبة إليهم هو الذهاب نحو "التوافق" قدر الإمكان، وكان لافتاً في هذا السياق انفتاح "الشيخ سعد" على شخصياتٍ وأحزابٍ كان قد أقفل "الأبواب" بوجهها في السابق بل أوصدها بإحكام، سواء منهم الخصوم التاريخيون والتقليديون، أو أولئك الذين توتّرت علاقاته بهم في الفترة الأخيرة، ومن بينهم على سبيل المثال لا الحصر رئيس الحكومة السابق ​نجيب ميقاتي​، الذي لم ينسَ اللبنانيون الاتهامات التي وجّهها له "المستقبليون" بـ"الانقلاب" بعد موافقته على ترؤس الحكومة بديلاً عنه، و"الحملات" التي شُنّت في وجهه نتيجة لذلك.

تحالفات عابرة للخلافات

هكذا، كانت سياسة "المستقبل" واضحة منذ اليوم الأول، تجنّب المعارك على أنواعها، سواء كانت باردة أو فاترة أو ساخنة، والبحث عن أوسع توافقٍ ممكن، في تحوّل جذري في سياسة التيّار، التي كانت قائمة في السابق على "احتكار" الساحة بشكلٍ مُطلَق.

وبنتيجة ذلك، برزت التحالفات "العابرة" للخلافات والمناكفات السياسية، ففي بيروت، وضع يده بيد من يتّهمه ليلاً نهاراً بالفساد، أي "التيار الوطني الحر". وفي طرابلس، طوى دون تردّد صفحة "الحرب" مع ميقاتي والوزير السابق ​محمد الصفدي​، بل مدّ يده إلى آل كرامي الذين لطالما خاض "الحريريون" معارك "الإقصاء" في وجههم. وفي البقاع، تحالف مع الوزير السابق عبد الرحيم مراد، ولم يتردّد حتى في صيدا في طرق أبواب "خصمه التقليدي"، أي رئيس "التنظيم الشعبي الناصري" أسامة سعد. أما في عكار، حيث خزانه البشري الأهمّ، ففضّل "المستقبل" الابتعاد عن المشهد وترك الخيار للعائلات تماماً كما فعل في بلدات وقرى العرقوب في الجنوب، بعد أن كان هو الآمر الناهي في الدورة السابقة.

لكن، ولسوء حظّ "المستقبليين"، لم تتطابق حسابات الحقل مع حسابات البيدر، فـ"فُرِضت" عليهم المعارك في عقر دارهم رغم كلّ "التنازلات"، وفي الأعمّ الأغلب من قبل قوى مدنية وليدة استطاعت أن تضرب "المستقبل" في الصميم، ولو لم تخرق جدار لوائحه، كما حصل في بيروت على سبيل المثال، التي ستبقى انتخاباتها "جرحاً نازفاً" قد يفوق بدلالاته "جرح 7 أيار" بالنسبة للبيئة "المستقبلية"، علمًا أنّ "الشيخ سعد" قد أكّد ذلك للقاصي والداني، عندما فتح "سجلّ" الحلفاء في العَلَن، رامياً باللائمة عليهم، ما أكّد أنّ "القطوع" لم يمرّ من دون خسائر. وفي صيدا، وعلى الرغم من "النصر" الذي حقّقه "المستقبل" في وجه "خصومه" الذين أصرّوا على خوض المعركة في وجهه، إلا أنّه حمل بين طيّاته تراجعاً، أبرزته نسبة التصويت التي انخفضت عمّا كانت عليه قبل ستّ سنوات، علمًا أنّه كان لافتاً أنّ رئيس "تيار المستقبل" لم يزر صيدا منذ عودته إلى لبنان، إلا بعد إقفال صناديق الاقتراع، وفي ذلك أكثر من لغزٍ مخفيّ...

اهتزازٌ غير بسيط!

عمومًا، قد لا يكون من الممكن الحسم من الآن ما إذا كان "القطوع" الانتخابي قد مرّ على خير بالنسبة لتيار "المستقبل"، ولكنّ الأكيد أنّ "تداعياته" على المستوى السياسي لن تكون بسيطة، سواء على صعيد التحالفات التي اهتزّت، أو على صعيد الاستحقاقات الآتية.

فما قبل هذه الانتخابات لا يمكن أن يكون كما بعدها بالنسبة للتيار كما بالنسبة لغيره من الأحزاب السياسية، خصوصًا أنّ "المستقبل" ظهر فيها بلباسٍ "انفتاحي" جديد، سيكون عليه ترسيخه في المرحلة المقبلة، ولو بدأ كثيرون يستخدمون نغمة "الحسابات البلدية المختلفة عن الحسابات النيابية" وما شابه ذلك. وإذا كان كثيرون قد بدأوا يمهّدون لانتخابات نيابية مبكرة، بعدما سقطت ذريعة التمديد، فإنّ "المستقبل" لا يبدو مستعداً لها، ولذلك ينشط على كافة المستويات لتجميد مثل هذه المشاريع، انطلاقاً من "أولوية" الانتخابات الرئاسية على ما عداها.

ولعلّ الأخطر من ذلك هو الاهتزاز غير البسيط في التحالفات التي على "المستقبل" معالجتها في القريب العاجل، وخصوصًا في ما يتعلق بالعلاقة مع من كان يصفها دائمًا بـ"الحليف الاستراتيجي" ، أي "​القوات اللبنانية​"، والتي تردّت إلى أدنى مستوياتها بعد انتخابات بيروت، فضلاً عن شعور "المستقبليين" بالمرارة لتقارب "القوات" و"الوطني الحر"، والذي أتى على حسابهم في الكثير من الأماكن.

أما العلاقة مع وزير العدل المستقيل ​أشرف ريفي​ فلم يعد بالإمكان وضعها في إطار "التمايز"، بعدما ذهب الرجل إلى معركة مع "المستقبل" وحلفائه "الجُدُد" في عاصمة الشمال، مستخدماً فيها كلّ أنواع "الأسلحة"، محاولاً إثبات "حيثية" لطالما نُسِبت إليه، "حيثية" سيكون من شأنها إنهاء كلّ "الخبز والملح" وربما أكثر...

تحولات مفصلية...

إذا كانت التحالفات السياسية، بمعظمها، قد اهتزّت منذ ما قبل الانتخابات البلدية، إلى حدّ دفع رئيس المجلس النيابي نبيه بري إلى إعلان موت فريقي 8 و14 آذار سريرياً، فإنّ الاعتقاد يسود بأنّ الاستحقاق الانتخابي قضى على "شعرة معاوية" التي كانت قد تبقّت منها.

وبانتظار تحديد "مراسم الدفن"، الأكيد أنّ طيّ صفحة الانتخابات يوم الأحد المقبل سيفتح صفحة التداعيات، التي لا شكّ أنّ معالجتها ستستغرق وقتاً طويلاً، ولعلّ ما ينتظر "المستقبل" قبل غيره على هذا الصعيد أكثر من مفصليّ...