الانتخابات البلدية سيادية بامتياز: إنها نتاج محليّ، «بلديّ»، ليس في ماضيه أو حاضره أي أثر للاستعمار، ولا «لوعد بلفور» أي اعتبار، وهو عصيّ على الايديولوجيا بتلاوينها المتعددة. ولم تنل الهجرة والتهجير والحروب التي شهدها لبنان أو تلك الدائرة في المحيط الإقليمي، من عزيمة المرشحين والناخبين. كما أن الأحزاب السياسية لا بد أن تتكيف مع الاعتبارات المحلية للمعركة، مهما علا شأنها وتأثيرها.

المحرّك الأساس في الانتخابات البلدية وجود أشخاص يرغبون في خوض المعركة لأي سبب، شخصيا كان أم عائليا، أو سعيا لوجاهة أو نفوذ. القاطرة في العملية الانتخابية محلية المنشأ، تليها الاعتبارات السياسية واصطفافاتها المتداخلة مع القوى السياسية النافذة في البلدة أو خارجها، في المنطقة أو البلاد. المحلّي يطغى على السياسي، والحزبية تعتمر العباءة العائلية أو المصالح الخدماتية والشخصية، وكأن المقصود توجيه رسالة مفادها أن الشأن البلدي يخص بالدرجة الاولى البلدة وأهلها، لا الحزب والمسؤولين عنه. أما العاصمة بيروت فتشكل حالة خاصة لأسباب تعود الى التوازنات الطائفية والسياسية ولأن للبلدية مداخيل ضخمة. انتخابات 2016 البيروتية كانت لها نكهة مميزة لجهة مشاركة المجتمع المدني المتنوع في الانتخابات، ترشيحا واقتراعا، وتسجيله نتائج لافتة.

تختلف المعارك الانتخابية وحساباتها بين المدن والبلدات الكبرى والقرى، ولكل منها خصوصية تعكس المكوّنات الاجتماعية والسياسية للدائرة الانتخابية، فضلاً عن الاعتبارات المرتبطة بإيرادات البلدية والمشاريع التي يمكن أن تقوم بها. ثمة بلديات تحولت محميات فساد، لا تخضع للمحاسبة الجدية من الناخبين. ففي يوم الانتخاب تطغى حسابات الفوز على أي اعتبار آخر. أما الإنماء، فعلى رغم التغنّي بمحاسنه في الخطاب الانتخابي، غالبا ما يكون الغائب الأكبر في اهتمامات الناس. غائب آخر هو الشأن العام، لا سيما أن عمل البلدية يتمحور حول إدارة الشأن العام في المجالات كافة على المستوى المحلي في إطار لامركزية إدارية تجسّدها البلدية وصلاحيات واسعة تتمتع بها البلديات واتحاداتها.

لا مبالغة في القول إن الانتخابات البلدية هي الأصدق تعبيراً عن واقع المجتمع الأهلي والأكثر انعكاساً لانتماءات الناس وأولوياتها في الشأن المحلي، بلا أقنعة تستر العيوب والميول والغايات. القضايا الوطنية غالبا ما تكون محيّدة والموقف منها لا تعبّر عنه بالضرورة المحاور الانتخابية المحلية. وقد تشهد الانتخابات البلدية حالات «تمرّد» محدودة في طابعها وأهدافها داخل الأحزاب وفي ما بينها. وهي حالات تُحدث إرباكاً سرعان ما يتم تجاوزه.

لعل أهم ما في الانتخابات البلدية أنها حرّكت الناس وأتاحت فرص التنافس الديموقراطي. إنها ديموقراطية محلية وتنافس ضروري، بمعزل عن دوافع المرشحين والناخبين وحساباتهم المحلية. وهي ايضا، في بعض الحالات، معركة إثبات وجود ومؤشر لموازين القوى السياسية، خصوصا بالنسبة الى الأحزاب والقوى السياسية المحلية التي ترتبط مكانتها المعنوية بمواقع نفوذ في بلدة معينة أو في المنطقة، أي القضاء. وقد تجمع «المصيبة» الأضداد في تحالف ظرفي تنتهي مفاعيله السياسية بعد الانتخاب.

تميزت انتخابات 2016 البلدية بأنها كانت مادة اختبار للتحالفات السياسية، القديم منها والجديد. التحالف بين «حزب الله» وحركة «أمل» مجرّب منذ سنوات، بلديا ونيابيا، وعلى رغم ذلك تطلب تظهيره جهوداً مكثفة، بينما التحالف بين «التيار» و «القوات» حديث العهد. ولقد شهد التحالف الأخير امتحانه الأول في معظم المناطق، وكان التعاطي الحزبي مع الواقع المحلي مرناً، وجاء انعكاساً لنيات الطرفين بالتحالف عندما كانت الفرصة متاحة وبالخصومة غير الحادة في معارك لم يكن بالإمكان تجاوزها. أما مقولة العائلات بمواجهة الأحزاب ففيها الكثير من المبالغة، إذ إن التداخل بين الحزبي والعائلي وحتى الشخصي يصعب فصله في الانتخابات البلدية.

يبقى أن أبرز ما أفرزته انتخابات 2016 البلدية أنها فتحت الطريق لإجراء انتخابات نيابية، أي أنها قضت على إمكانية التمديد للمجلس النيابي لانتفاء الأسباب، الموجبة والمُفتعلة، وبمعزل عن قانون الانتخاب ووظائفه المتباينة.