اربعة اسابيع عاشها لبنان من عمر ​الانتخابات البلدية​، حفلت بالكثير من المعطيات والاحداث والتطورات ولكنها انتهت الى ابراز صورة واضحة عما يخالج اللبنانيين والسياسيين من مشاعر واهداف. منذ بداية المرحلة الاولى وحتى انتهاء المرحلة الرابعة منها، كان كل حزب وتيار ومسؤول يدّعي انه حقق الفوز ولبّت الانتخابات اهدافه، وحصد اصوات اللبنانيين، ولكن هل كان هذا هو الواقع بالفعل؟ نظرة سريعة تعطي لمحة عما يمكن لأيّ مواطن لبناني ان يلاحظه عبر مقاربة موضوعية:

اولاً-يمكن القول ان الانتخابات جسّدت صحة مقولة الاهتمام الدولي باستقرار لبنان الأمني، حيث كان يمكن ان تفلت الامور من عقالها في ما خص هذا الأمر، ومن دون اي سبب، لكن الضغط الدولي وهامش التحرك المعطى للجيش والقوى الامنية وفّرا القدرة الكافية لضبط الوضع والتكفّل بتأمين انتخابات بلدية دون اي فلتان، وهو ما شجّع بالتالي على اعتبار الاجواء متاحة من هذه الناحية لاجراء الانتخابات النيابية، في ظل المظلة الأمنيّة التي تم تمديد مهلتها على ما يبدو... وكان من الممكن لولا ذلك، ان تتشح العملية الانتخابية بالكثير من الاهتزاز جرّاء الحساسيات العائلية، ولكن حتى عملية "الثأر" التي نفذت انتقاماً للشهيد الجندي محمد حميّة وطالت محمد الحجيري (ابن شقيق "ابو طاقية")، لم تؤدِّ الى حصول فلتان امني، وهو امر يستحق التنويه.

ثانيًا-ولجهة الناحية السياسية، فكان واضحاً ان التأثير السلبي للانتخابات البلدية طال كل الاحزاب، وانه على الرغم من اعلان كل حزب فوزه بالانتخابات، الا ان هذا الفوز كان نسبياً واختلف من منطقة الى اخرى ولم يكن بحجم التوقّعات الموضوعة من قبل الاحزاب ومناصريها، وارسى خلافاً في البيت الداخلي فيها والتيارات السياسية في لبنان.

هذا كان واقع الحال لدى التيار الوطني الحر الذي عانى من "احراج" في المناطق اللبنانية رغم التحالف الذي عقده مع ​القوات اللبنانية​ وما اعتبر بـ"تسونامي مسيحي"، حيث خسر في مناطق كان بامكانه الفوز فيها لو لم يكن الانقسام سيّد الموقف، ولو لم يتنافس اعضاؤه مع بعضهم البعض ما جعل من الصعب على المؤيّدين عدم تقسيم الاصوات. وكي لا نذكر كل محطة، نتوقّف عند محطة المتن التي تعتبر "ثقلاً اساسياً" للتيّار، فحضوره تقلّص كثيراً في الوسط فيما تعزز في القسم الأعلى من المناطق المتنية، لكن للوسط اهميته كونه الثقل الاقتصادي والسكاني، فيما اضطر الى خوض معركة قاسية في جونية للفوز وبفارق عدديّ قليل من الاصوات، بينما قلبت نتائج بلدية جزين فرحة الفوز النيابي الى "قلق".

هل فاز التيار الوطني الحر في الانتخابات البلدية؟ طبعاً، ولكنه لم يكن على حجم ما هو متوقّع او مرجو، ولم يكن بالطبع كاسحاً، واثبتت التحالفات المقابلة وبالأخصّ في المتن وجونية وجزين (المر، الخازن، البون، افرام، الحلو...) ان حضورهم يبقى وازناً على الارض ولو انه خجول سياسياً.

وقد تكون "القوات اللبنانية" قد كسبت بعض المعارك، لكنّها ايضاً لم تعرف النتائج التي خطّطت لها عندما سقط جدار "العداوة" مع "التيار الوطني الحر"، وارست اسس التحالف. صحيح انها ابرزت حضورها في بعض المناطق الإضافية مقارنة مع حضورها الاول في الانتخابات السابقة، ولكن المفترض ان يكون هذا الحضور اكبر واشمل على صعيد لبنان ككل، وفقاً لقاعدة التحالفات، الا ان "طبخة" التحالف لم تنضج كما يجب في عقول ونفوس المحازبين، وشهدت الكثير من العوائق والتحديات.

هل فازت القوات في الانتخابات البلدية؟ طبعاً، ولكن طعم الفوز لم يكن عسلاً، بل حلواً بعض الشيء، ويجب اعادة النظر في مسار الخطوات المتخذة لتعزيز هذا الحضور على المستوى الشعبي.

وفي ما خص باقي الاحزاب المسيحية، فـ"الكتائب" لم يكتسح كما تم تصوير الامر، ولكنه عرف كيف ينسج تحالفاته، ومع من يقف لاثبات حضوره فهو لم يكتسب شعبية اضافية بل حافظ على قاعدته. اما "المردة" فلم يوسع حضوره انما اختار ابقاء الستاتيكو على ما هو عليه، والتقدم بخطوة مع آل معوض قد يستثمره انتخابياً في وقت لاحق.

هل فازت الاحزاب المسيحية الباقية في الانتخابات البلدية؟ طبعاً لكن حضورها بقي على حاله ولم يتطور، واكتفت باثبات الوجود.

على صعيد تيار المستقبل، لا شك انه تلقى ضربة قوية في بيروت، لكنه وعلى الرغم من عمله على استخلاص العبر منها وقراره التحالف في طرابلس ورئيس الحكومة السابق ​نجيب ميقاتي​ الذي بدا الاكثر ارتياحاً في تلك المدينة، و"فرض شروطه" على النائب ​سعد الحريري​ الذي كان تواقاً الى "تحجيم" وزير العدل المستقيل اشرف ريفي والتخلص من "تهديده" له في طرابلس، الا أن الصفعة جاءت قويّة بما لا يقبل الشكّ حيال انحسار دور رئيس الحكومة السابق.

وقد تكون نتائج الانتخابات الاقسى بالنسبة الى التيار المستقبلي منذ نشوئه، ويحتاج بالطبع الى شد العصب لاعادة لم الشمل واستعادة صورته السابقة.

هل فاز تيار المستقبل في الانتخابات البلدية؟ طبعاً، ولكن هل هذا هو الفوز المنشود؟

في ما خص امل وحزب الله، تبدو الثنائية الشيعية ثابتة بعض الشيء، رغم بعض "التشقق" الذي اعتراها بفعل المنافسات العائلية حيث برزت لاءات في قرى وبلدات، لم تؤثر على الصورة العامة، لكنها تركت اثراً على العلاقة بين الحزبين وعلى علاقة كل منهما مع القاعدة الشعبية.

ولم يغرد رئيس "اللقاء الديمقراطي" النائب ​وليد جنبلاط​ بعيداً عن السرب، اذ طاله "الإحراج" ايضاً، وهو امر يعتبره مقلقاً لأنه يتحضر لتوريث نجله تيمور، ولا يرغب في تسليمه الحزب والزعامة مع بعض الشكوك والقلق.

في الحصيلة، صحيح ان الاحزاب فازت ولكن الفوز لم يكن بالمقدار الذي صوّرته، وهو بالتأكيد ليس بالمؤشّر بالنسبة الى الانتخابات النيابية اذا ما حصلت، اي انه يمكن ان تحظى الاحزاب بتأييد اكبر في النيابة، ولكن النتائج البلدية تؤثر حتماً على القاعدة الشعبية وعلى الاهداف الموضوعة لأجل طويل.