خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، وعلى الرغم من "الجروح" التي أصيب بها في كلّ مكان، حرص مستشارو رئيس "تيار المستقبل" ​سعد الحريري​ على "إيهامه" بأنّه "الرابح الأكبر" من ​الانتخابات البلدية​ على كلّ المستويات، مستندين إلى أنّ "لوائحه" فازت بكامل أعضائها، من دون تسجيل أيّ خرق، بخلاف كلّ الأحزاب الأخرى، رافضين إعطاء الأرقام التي أفرزها الاستحقاق أيّ اهتمامٍ يُذكَر.

ولكن، بعد "انتفاضة" طرابلس الصادمة والمدوّية، لم يُعرَف كيف سيتمكّن هؤلاء المستشارون من "تعليب" الأمر لإيهام "الشيخ سعد" بأنّ "الانتصار" كان حليفه رغم الخسارة، وربما يستندون في ذلك إلى أنّ وزير العدل المستقيل ​أشرف ريفي​ يبقى من رحم "تيار المستقبل". وأبعد من ذلك، لم يُعرف إذا كان "الشيخ سعد" سيصدّقهم...

صدمة أكبر من أن تُحتمَل...

هي "انتفاضة" بكلّ ما للكلمة من معنى، أتت مباغتة ومفاجئة وخارجة عن كلّ التوقعات...

حتى ساعةٍ متقدّمة من مساء الأحد، كان الجميع يعتقد أنّ لائحة "لطرابلس" المدعومة من الأحزاب التقليدية ستفوز بكلّ أعضائها، لدرجة أنّ بعض "رعاتها" تسرّع بإعلان "الانتصار"، اعتقاداً منه ربما أنّه "حتمي" وبالتالي لا يمكن أن يكون خاضعاً للنقاش.

في المقابل، كان "طموح" وزير العدل المستقيل أشرف ريفي أن "يخرق" اللائحة التوافقية، هو الذي ذهب بعض المحلّلين لحدّ "التنبؤ" بانتهاء "حياته السياسية" بسبب "المغامرة" التي خاضها، ما دفعه للخروج إلى الإعلام معلناً أنّ مجرّد دخوله السباق في وجه الجميع هو "انتصار"، مهما كانت النتائج.

فجأة، تغيّرت كلّ المعطيات، وانقلبت الأمور رأساً على عقب. الأحزاب هي التي أصيبت بـ"النكسة"، وريفي هو الذي "انتصر"، شاء من شاء وأبى من أبى. ولأنّ "الصدمة" كانت أكبر من أن تُحتمَل، بقي كثيرون يردّدون أنّ ريفي نجح في "خرق" اللائحة التوافقية، وكأنّها الفائزة، في حين أنّ العكس هو الصحيح، باعتبار أنّ الرجل الخارج حديثاً من عباءة "تيار المستقبل" ثبّت أقدام "الزعامة" التي يصبو إليها، بعيدًا عن كلّ العباءات السياسية، التي أثبتت الانتخابات أنّها جميعها في حالة تراجع وأفول، سواء تجرّأت على الاعتراف بذلك أم لم تجرؤ.

أنا الزعيم!

قالها أشرف ريفي لكلّ "زعامات" طرابلس التقليدية، من سعد الحريري إلى "حلفائه الجُدُد" رئيس الحكومة السابق ​نجيب ميقاتي​، والوزيرين السابقين ​محمد الصفدي​ و​فيصل كرامي​، مروراً بـ"الجماعة الإسلامية" و"الأحباش" وغيرهم... لكلّ هؤلاء، قال ريفي بصوتٍ عالٍ، "أنا الزعيم، ونقطة على السطر"!

ولكن، ماذا يعني فوز ريفي عملياً في الانتخابات البلدية في طرابلس؟ هل هو انتصارٌ لخط "التطرف" على خط "الاعتدال"، كما قرأه كثيرون، أم "رسالة امتعاض" ترجمها الشعب في صناديق الاقتراع، ووصلت إلى الطبقة الحاكمة، بكلّ مكوّناتها؟!

لا شكّ أنّ المعنى الاول الذي يمكن التوقّف عنده، هو أنّ الرجل الذي خاض الانتخابات منفرداً في وجه الجميع عرف كيف يشقّ طريقه السياسية، وأثبت أنّه زعيمٌ بكلّ ما للكلمة من معنى. ولكنّ الأكيد أنّ عوامل كثيرة ساعدت في تكريس هذه "الزعامة"، لا يمكن حصرها فقط بميزات الرجل أو بخطابه مرتفع السقف، فتصويت أهالي طرابلس لصالحه إن دلّ على شيء فعلى أنّ هناك نقمة شعبية هائلة على الأحزاب السياسية، وعلى رأسها تيار المستقبل، من دون أن ننسى أنّ تجربتها "المريرة" مع المجلس البلدي السابق الذي طغت خلافات ومناكفات أعضائه على الإنماء تجعلها تفكّر عشرات المرّات قبل "التورط" في إنتاج صيغة جديدة، "مستنسخة" منه.

وإذا كان كثيرون قرأوا بنتيجة الانتخابات أيضاً انتصاراً للفكر "المتطرف" على ذلك الذي يُصنَّف في الإطار "المعتدل"، فإنّ الأحزاب التي "تصالحت" فجأة على "الحصص والمغانم" تتحمّل المسؤولية الأكبر في وصول الأمور إلى ما وصلت إليه، وهي التي ارتكبت من "الخطايا" ما ارتكبت في إدارة المعركة، "متوهّمة" أنّ الانتصار "في الجيب". ومن هذه "الخطايا" استبعاد منطقة التبانة عن اللائحة التوافقية، المنطقة التي لطالما "استُغلّت" في كلّ الصراعات الدمويّة التي تمّ توريط ​مدينة طرابلس​ فيها، وهو الأمر الذي وُصِف بالخطأ الفادح، بل القاتل.

"المستقبل" إلى أين؟

الخسارة التي منيت بها الأحزاب التقليدية في طرابلس لم توفّر أحداً. فميقاتي والصفدي وكرامي كلّهم خاسرون، هم الذين اعتقدوا أنّهم بالتوافق الذي توصّلوا إليه قادرون على "تحصين" الحيثيّة الشعبيّة والسياسيّة التي يبنونها منذ فترةٍ ليست بالقصيرة، ولكنّ الأكيد أنّ "تيار المستقبل" يبقى الخاسر الأكبر، هو الذي أظهرت الانتخابات تراجعه الشعبي الهائل، فضلاً عن ضعف ماكينته الانتخابية، التي لم يكد يُرصَد لها أثر طيلة اليوم الانتخابي.

وإذا كان كثيرون، حتى الأمس القريب، يعتقدون أنّ "المستقبل" سيتصرّف بعد الانتخابات وكأنّها لم تكن، وسيعتبر نفسه "رابحاً" منها، وأنّه لن يعمد حتى لإجراء أيّ مراجعة ذاتية، باعتبار أنّ كلّ ما يُكتَب ضدّه نابعٌ من "أحقاد" لا أكثر ولا أقلّ، فإنّ هذه المعادلة اختلفت رأساً على عقب بعد نتيجة انتخابات طرابلس. هنا، الصفعة القوية التي تلقّاها "التيار الأزرق" تفرض عليه إعادة النظر بكلّ سياساته ومواقفه، ومحاولة قراءة الدوافع التي جعلت بيئته الحاضنة تنكفئ عن دعمه بالمطلق كما اعتادت.

وإذا كان من عبرةٍ أو من درسٍ على الحريري أخذها، فهي أنّ الساحة لم تعد مُلكَه، وأنّ ما يُحكى عن تراجعه ليس مجرّد "كلام صحف" كما يحلو لبعض المقرّبين منه أن يهمسوا في أذنه دائماً، بل هو "جدّي" بكلّ ما للكلمة من معنى، وهو ما أثبتته صناديق الاقتراع بشكلٍ "فاقعٍ" في عرينه الشمالي، وواضح في مناطق أخرى كالعاصمة بيروت ومدينة صيدا.

وإذا كانت الأزمة المالية التي مرّ بها "تيار المستقبل" من الأمور التي ساهمت في "تقهقره"، وهو الذي يقول الكثير من المتابعين أنّ "سلطته" قائمة على الماديات بالدرجة الأولى، فإنّ الصوت الاعتراضي الآخذ في الارتفاع من داخل بيئة "المستقبل" لم يعد من الممكن تجاوزه، وهنا مكمن الخطر الأول والأخير.

البدائل كثيرة...

منذ إعلان سعد الحريري، دون مقدّمات، ترشيح رئيس "تيار المردة" النائب سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، و"تيار المستقبل" يتدرّج هبوطاً من السيّء إلى الأسوأ.

يومها، لم يجد الحريري نفسه مضطراً ليبرّر لقاعدته الشعبية خياره المفاجئ، تماماً كما لم يتردّد في الدخول في "صراع مزايدات" مع وزير العدل المستقيل أشرف ريفي، وصولاً حتى التخلّي عنه، رغم أنّ الأخير يشكّل "حالة خاصة" ساهم الحريري نفسه في بنائها وتركيبها.

اليوم، بات على الحريري إعادة النظر بكلّ ذلك. فسواء رضي أم لم يرضَ، وسواء "صَدَق" معه مستشاروه أو "سايروه"، لا شكّ أنّ نسخته لـ"الحريرية السياسية" تحتضر، و"البدائل" كثيرة، وكلّهم من "حواضر البيت المستقبليّ". فهل يجرؤ "الشيخ سعد" ويقدم على "المراجعة الذاتية" قبل فوات الأوان؟!