كما أن كلّ بيتٍ يحتاج الى نفضة من حين الى آخر لكسر الروتين المشهدي، كذا البيت العوني الذي بدأ أربابه يستشعرون الحاجة الماسّة الى تلك النفضة التي تعيد ضبط الإيقاع الداخلي وتحدّ من النشاز وفق مبدأ المحاسبة الداخلية للملتزمين.

بإنصاف يتعاطى رئيس التيار جبران باسيل مع كوادر تياره والمنتسبين إليه. فالرجل البراغماتيكي بات بعد الانتخابات البلدية ينظر بعيني التحفيز والريبة الى كلّ من يرفع الراية البرتقالية انتسابًا لا تشجيعًا فحسب. وعليه، كان لا بدّ من الثواب والعقاب.

سابقة حزبية

تعميمان متعاقبان بالكاد تفصل بينهما ساعات صدرا عن رئاسة التيار الوطني الحرّ يحمل أوّلهما فرصةً تشجيعية في سابقةٍ حزبية لكلّ منتسبٍ الى التيار لخوض الانتخابات التمهيدية الداخلية لاختيار مرشحين محتملين للانتخابات النيابية التي باتت قريبة، والتي تؤمن الرابية بأن إنجازها بات في حكم الأمر الواقع من دون السماح بمزيد من الذرائع الواهية هذه المرة. أما ثانيهما فوضعُ نقاطٍ على الحروف من خلال تثبيت دعائم مبدأ المحاسبة الداخلي لكلّ متنصّلٍ من التماهي مع قرارات القيادة العليا، وهو أمرٌ غير سبّاق بالنسبة الى الأحزاب اللبنانية التي تتهافت في الآونة الأخيرة من تيار المستقبل الى الحزب التقدمي الاشتراكي على إعادة حساباتها الداخلية وتنظيم بيوتها ولمّ الأشمال في أعقاب الخسائر الكبيرة التي مُنِيت بها بلديًا، ناهيك عن تغريد كثيرين من طيورها وصقورها خارج سربها المرسومة طريقه سلفًا وليس الوزير أشرف ريفي سوى المثال الصارخ على “إسقاط” من “زعّمه” في عقر داره الطرابلسية.

تمرُّد صامت

لا يريد التيار البرتقالي أن يصل الى هذه المرحلة، وهو الذي بدأ يشهد منذ تعيين جبران باسيل رئيسًا، كثيرًا من “التمرّد الداخلي الصامت” على قرارات القيادة، ولعلّ آخرها وأكثرها حيويّةً إنما تجسّد في انشطار الدعم البرتقالي على المستوى الانتخابي البلدي في أكثر من منطقة أبرزها بيروت وجزين والمتن، من دون أن تتمكّن القيادة من تقزيم مفعول هذا الانقسام على صعيد النتائج التي صبّت في غير صالحها في بقع محدودة، وهو ما دفعها على ما علمت “البلد” الى رسم مسار محاسبة صارم في حقّ من تبيّن أنه خالف إرادة التيار الموحّدة لحساب قرارٍ فردي ولكن مع بقاء صاحبه تحت الراية البرتقالية.

من الكتاب البرتقالي

كثيرًا ما سيستلهم التيار بحلّته الجديدة من مبادئ الكتاب البرتقالي القائم في متنه وصلبه على أهمية الديمقراطية والنضال من أجل الإصلاح والتغيير في مجتمع غارقٍ في الفساد، ومع ذلك سيبدو تكريس مبدأ المحاسبة من دون أن يُفسِد في الودّ الشخصي قضيّة مفاجئًا بالنسبة الى كثيرين ممن يظنون أن “التيار في حاجة ماسّة الى مزيد من الأعضاء وبالتالي لن يفرّط في أيٍّ منهم حتى لو أمعن بعضهم في المخالفة”. لن يكون الأمر على هذه الشاكلة بعدما أخذت الرابية على نفسها قرار تجريد كلّ عاصٍ من بطاقته الحزبية، علمًا أن مجموعة لا يُستهان فيها من هؤلاء كانت تفكّر عقب الانتخابات البلدية وردود الأفعال على دعمها لوائح مقابلة، في جمع بطاقات أفرادها ووضعها على طاولة باسيل.

تعاميم غير جديدة

ليس في الرابية ما يدعو للاستغراب أو الاستهجان إزاء التعميمين الصادرين عن رئيس التيار، لا سيما في ظلّ وجود قناعةٍ راسخة بأن كلّ حزبٍ عليه أن يرسي منطقَي المساءلة والمحاسبة في نظامه الداخلي، ولكن ضمن نطاق الحزب نفسه خصوصًا أن هؤلاء المخالفين يتشاطرون وتيارهم في نهاية المطاف المبادئ والثوابت نفسَها والتي لا تراجع عنها تحت أي ظروفٍ أو ضغوط. بيد أن هذه الحقيقة لا تلغي أهمية ضبط التيار وسواه من الأحزاب رؤساء هيئاتهم وأقاليمهم وناشطيهم كي “لا يفتح كلٌّ على حسابه” وهو ما لا يُمكن أن تُحمَد نتائجه لاحقًا متى كرّت السُبحة وبات التفلّت من قرارات القيادة وتوجّهاتها استسهاليًا ومُتاحًا لكل طالب سلطة. من أجل هؤلاء أيضًا الذين يرون أنفسهم في مناصب تفوق النشاطات الحزبية الصغيرة المناطقية، رُسِم مسار الانتخابات التمهيدية لإنصاف كلّ من يحظى بتأييدٍ داخل تياره وهو ما قد يكون نموذجًا مصغّرًا عن خيارات القاعدة البرتقالية في الانتخابات النيابية أيًا كانت التحالفات وقانون الانتخاب. هذا وعلمت “البلد” أن مثل هذه التعاميم ليست جديدة على التيار لا بل طُبِخت منذ زمن وعُمِل على “تبكيلها” قانونيًا من كلّ الجهات، بيد أن أمورًا عدة دفعتها الى النور، وإن كانت مصادر الرابية ترفض حصرها في ما شهدته الانتخابات البلدية الأخيرة من تخبّطات داخل البيت الواحد.

“صوفة حمراء”

كي لا يُفهَم باسيل خطأ وهو صاحب “الصوفة الحمراء” بالنسبة الى كثيرين من أبناء التيار، حرص الرجل على تخفيف حدّة المحاسبة والمساءلة التي يمكن في خطوطها العريضة أن تنفّر كثيرين من المنتسبين، من خلال رفض زجّ العلاقة الشخصية في الأسس والأنظمة الداخلية، ومن خلال مسامحته “كلّ من أخطأ الى التيار” في “لطشةٍ” صريحة الى رفقاء الدرب من المناضلين والناشطين الذين آثروا خياراتٍ بلديّة فرديّة في أكثر من قضاء انتخابي ليقولوا للقيادة بشكل علني: نحن هنا ونحن مؤثرون لا بل قادرون على إحداث فارق”.

علاقة أكثر توازنًا

لم تهمّش الرابية يومًا الأصوات الصارخة في وجدان عمادها والباحثة عن مزيدٍ من الإصلاح والتغيير في داخل التيار نفسه، بيد أنه لا يمكن للقيادة أن تتوقع هي الأخرى بأن يبارك لها المنتسبون كلّ قرارٍ تتخذه، كما لا يمكن للملتزمين أن يتوقعوا هم أيضًا بأن تنصاع القيادة لأهواء كلّ واحدٍ منهم أو أن تغني موالًا أراده زياد عبس في بيروت أو آل الحلو في جزين أو نبيل نقولا في المتن. وعليه، يبحث التيار عن علاقةٍ أكثر توازنًا وتكافؤًا تتماهى مع الشعار الذي ارتقى به رئيسُه الشاب يوم تعيينه: التيار القويّ.

“بتحبّ العماد؟”

إذًا، على قاعدة “بتحبّ العماد التزم بقرارو” سيعمل التيار من اليوم فصاعدًا. لا يعلم الكوادر حقيقة ما إذا كانت المحاسبة ستشمل الماضي أم ستكتفي بالأخطاء التي ستُرتكَب بعد تاريخ إصدار التعميم الثاني. أيًا يكن، يبدو أن الهدف المُعلَن من مثل هذا التعميم على ما علمت “البلد” يذهب في اتجاهين: توضيب البيت الداخلي بعد جملة تفلتات في الانتخابات البلدية، وإخراس الخصوم والحلفاء الشمّاتين الذين لا ينفكون يردّدون: “الأمور بالتيار فلتانة”.