«المستجير بعمرو عند كبوته كالمستجير من الرمضاء بالنار» مثل عربي قديم لا أعلم ما كان يدور في عقول هؤلاء المجانين وهم يسيرون مثل «الزومبي» نحو «القاع»، وهل كانت في رؤوسهم أدمغة أساساً وهم يُضحّون بأجسادهم للتفتّت، وبأشلائهم لتتناثر قطعاً عشوائية، خدمة لأسطورة أدخلها في وجدانهم شيطان ما، قابع في دهليز محصَّن.

ولا يُمكن التأكيد من خلال معلوماتي عن طبيعة كلّ واحدٍ من هؤلاء على المستوى النفسي قبل وحين تنفيذهم الجريمة. ولكن بجردة مبدئية حول أعمار المنتحرين وخلفياتهم الإجتماعية والمعطيات المتوافرة حول أدوات التنفيذ في الفكر الظلامي، نرى أنّ هؤلاء في معظمهم كان من المحتمل أن ينتحروا بوسائل أخرى لولا أن أتَتهم الفرصة التي فتَحها لهم البغدادي أو غيره من الشياطين.

يعني أنّه كان من الممكن أن ينتحر هؤلاء برصاصة في الرأس، أو بالسقوط من ارتفاع ما، أو بجرعة زائدة من المخدرات، أو في حادث سيارة تحت تأثير الكحول، أو في اشتباك بالسكاكين في بارٍ ما... ولذلك أقترح على المسؤولين تحليلَ آثار المخدرات أو غيرها من المواد المهلوسة على ما تبقّى من المنتحرين.

لكنّ المهم هو ليس في تلك الأرواح الرخيصة التي تُستدرج للقيام بالجريمة، فالتاريخ يحمل أمثلة دائمة منها، مع فوارق في الأسباب والذرائع والعقائد.

المهم يكمن في التداعيات ومَن المستفيد من تلك الأعمال، بغض النظر عن الشعارات التي تُرفع أثناء الفعل الجرمي، والإنطباعات الأوّلية التي تُرسم لدى العموم بغض النظر عن الحقائق المثبتة، لأنّ الحدث يَعمي البصائر في لحظات الذروة.

وبصراحة لا يمكن لعاقل أن يطلب من المفجوع أن يتعقّل لحظة حاجته إلى الغضب والحداد وتفجير الأحاسيس. لكن بعد فورة الأحاسيس علينا العودة إلى التحليل الهادئ لفهم طبيعة جريمة القاع.

في البداية سنفترض أنّ القاع هي المستهدَفة ولم تكن مجرّد ممرّ، ولأسباب هي في صلب الفكر التكفيري، أي كون السكان مسيحيّين، مع العلم أنّ كلَّ المعطيات تؤكّد أنّ الأكثرية العظمى من السنّة مستهدَفة حسب العقيدة الظلامية، ولن ندخل الآن في جدل عقيم حول مَن أفلَت الوحش من سجنه في الأساس، فالتهمة بتسويغ الإرهاب حاضرة.

ولنذهب إذاً لتحليل النتائج التي أتت بعد العمل الإرهابي، فـ»داعش» ومثيلاتها، حتى وإن انطلقت من عقائد محدّدة، ليست إلّا مرحلة تشبه رمشة عين في التاريخ، مع العلم بالضرر الكارثي الذي تُحدثه أثناء مرورها الخاطف. ويكفي أن نتذكّر السبعينات من القرن الماضي وكيف كان الإرهاب ذو الخلفية اليسارية يضرب أينما كان وكيفما كان، تحت شعارات أخرى، واليوم ما هو إلّا من الماضي.

إذاً مَن المستفيد الآن، حتى وإن لم يكن له باع مباشر في الجريمة؟

الجواب يأتي في ردة الفعل المباشرة لأبناء القاع المفجوعين بعد الحدث:

- ردة فعل ذات طابع طائفي ضد السنّة عموماً.

- ردة فعل مباشرة ضد معارضي النظام السوري بكلّ أشكالهم.

- كلام وتحريض ذات طابع عنصري ضد اللاجئين السوريين.

- تحريض مباشر ضد عرسال وجرودها.

- ظهور بوادر أمن ذاتي بوجود الجيش اللبناني.

- بروز أصوات تحضّ «حزب الله» على حماية المنطقة، بدلاً من حلب.

- عودة إلى الحديث عن تجاوز الخلافات مع «حزب الله»، ما يعني قبوله كما هو، في سبيل مواجهة الإرهاب.

- فئة ما زالت على قناعتها بأنّ «حزب الله» بدخوله إلى سوريا هو مَن استدرج الإرهاب إلى لبنان.

- فئة تعتبر «حزب الله» إرهابياً يمثل خطراً وجودياً على لبنان يشبه «داعش».

يَعني بالمحصّلة، فإنّ ميزان الكسب من الحدث يميل إلى «حزب الله»، على الأقل على مستوى الإنطباعات العامة للمواطنين، خصوصاً لدى المسيحيين منهم، فيما بقيَ الوضع على حاله عند السنّة والشيعة.

المهم هو أنه بمراجعة بسيطة للخريطة في شمال شرق لبنان، ومدى تمدّد «حزب الله» والتطهير المذهبي الذي تسبّب به من القُصير حتى الزبداني، تظهر معالم خريطة جديدة تبقى فيها ثلاثة مواقع هي القاع ورأس بعلبك وعرسال غير صافية مذهبياً، وعلى القارئ أن يستنتج كيف يفيد الإرهاب إرهاباً آخر في مساره العشوائي.