في الوقت الذي كان يتوقّع الكثيرون نهاية حكم الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان، قام هذا الأخير بإستغلال "أوراق القوّة" التي يملكها، بحيث قايضها مع الدول والجهات المعنيّة، بهدف إعادة تعويم نفسه ودولته على الساحتين الإقليميّة والدوَليّة. وبعيدًا عمّا قيل في الإعلام عن أسباب تطبيع وتحسّن علاقات تركيا أخيرًا مع كل من الولايات المتحدة الأميركيّة و​روسيا​ وإسرائيل والإتحاد الأوروبي، يُمكن تسجيل الخلفيّات غير المُعلنة التالية:

أوّلاً: في تحسّن العلاقات مع أميركا، إستخدم أردوغان ورقة التنازل عن معارضة التحرّكات العسكريّة التي يقوم بها الأكراد على الحدود مع تركيا بدعم أميركي مباشر وتحت ستار "قوّات سوريا الديمقراطيّة" التي تُحارب تنظيم "داعش" الإرهابي، وبالتالي غَضَّ الطرف عن مُواصلة رسم خطوط "الكانتون" الكردي الحدودي داخل سوريا، للحُصول من الولايات المتحدة الأميركيّة على تنازلات مُقابلة تبدأ بالتمهيد لإعادة تركيا إلى موقعها السابق الطبيعي ضُمن المحور الأميركي-الغربي، وتمرّ بوقف تساهل واشنطن إزاء النفوذ الإيراني في كل من سوريا و​العراق​، بشكل يُهدّد المصالح الإستراتيجيّة لتركيا، وتصل إلى إستعادة وهج التحالف الأميركي-التركي.

ثانيًا: في تحسّن العلاقات مع روسيا، وإضافة إلى وجود مصالح إقتصادية مُشتركة بين تركيا وروسيا كانت تُقدّر بنحو 44 مليار دولار أميركي من التبادلات التجاريّة، ما يعني وجود مصلحة مُشتركة لكل من أنقره وتل أبيب لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه، إستخدم أردوغان ورقة الغاز الإسرائيلي لدفع موسكو لتليين موقفها منه، فروسيا تخشى من ضياع سوق الغاز التركي من يديها كلّيًا، في حال لجوء أنقره إلى إسرائيل كبديل لمشاريعها السابقة مع موسكو، حيث تحرص السلطة الروسيّة على إبقاء فرص شركة الغاز الروسية (غاز بروم) الإستثماريّة في تركيا والمنطقة، ومنها إلى دول البلقان وإلى دول شرق أوروبا، قائمة. وفي المُقابل، يرغب أردوغان أن تكون لتركيا كلمة في التسوية النهائية التي لا بُد أن تحصل يومًا ما في ما خصّ الملفّ السوري، وأن يتم حفظ الدور التركي في أيّ إتفاقات نهائيّة.

ثالثًا: في تحسّن العلاقات التركيّة مع إسرائيل، إستخدم أردوغان ورقة نفوذه لدى حركة "حماس"، بحيث قضى الإتفاق غير المُعلن بين أنقره وتل أبيب أن تقوم تركيا بالضغط على "حماس" لمنعها من القيام بأيّ تصعيد عسكري مُهمّ ضد إسرائيل والعمل على مُبادلة العناصر والجثث التي تحتجزها "الحركة"، في مُقابل تخفيف إجراءات الحصار البرّي والبحري على قطاع غزّة. ومن المُتوقّع أن يلعب أردوغان دور الوسيط بين إسرائيل وحركة "حماس" في المُستقبل القريب، لمحاولة تخفيف أجواء الإحتقان ولإعادة تبريد الوضع بين الطرفين.

رابعًا: في تحسّن العلاقات مع دول الإتحاد الأوروبي، لجأ أردوغان إلى ورقة اللاجئين حيث تعهّد بعيدًا عن الإعلام بضبط مسألة إنطلاق بواخر اللاجئين السوريّين من الشواطئ التركية نحو الدول الأوروبيّة بشكل جدّي هذه المرّة، في مُقابل تليين مواقف الإتحاد الأوروبي من تركيا مُجدّدًا، وتسهيل دخول الأتراك إلى الدول الأوروبيّة، وإعادة تنشيط العلاقات التجاريّة بين الطرفين، وتخفيف الضغوط على تركيا بالنسبة إلى ملفّات حقوق الإنسان والحريّات، إلخ.

في الخلاصة، صحيح أنّ مشروع الرئيس التركي بتزعّم العالم العربي بواسطة حُكم "الإخوان المُسلمين" في أكثر من بلد قد فشل وانهار تمامًا، وصحيح أنّ مساعيه لإسقاط الرئيس السوري بشّار الأسد قد فشلت منذ خمس سنوات حتى تاريخه، لكنّ الأصحّ أنّ أردوغان لا يزال يملك الكثير من أوراق الضغط التي يستطيع تحريكها متى يشاء للحُصول في المُقابل على تنازلات من هذا الطرف أو ذاك، بشكل يُبقيه كأحد اللاعبين الإقليميّين الأساسيّين والمُؤثرين في أيّ تسويات مُستقبليّة للمنطقة.