هو سؤالٌ افتراضيٌ ليس أكثر ولا أقلّ، ولكنّه مطروحٌ في الكثير من الأوساط السياسية الداخلية والخارجية، سؤالٌ لا تقف الإجابة عليه عند الجانب العسكري، على أهميته، بل تتخطّاه لتشمل الجوانب النفسية والاجتماعية والسياسية.

فماذا لو تكرّرت حرب تموز اليوم، لا سمح الله؟ هل يضع اللبنانيون مثل هذا الاحتمال في حساباتهم؟ هل هم مستعدّون لأيّ سيناريو من هذا النوع؟ هل "حزب الله" أصلاً جاهزٌ لمواجهةٍ قال يومًا أنّها لن تنتهي إلا بزوال إسرائيل؟

وأبعد من ذلك، ماذا عن الجهوزية السياسية؟ كيف سيواجه بلدٌ رأسه مقطوع ومؤسساته منهارة أيّ حرب، قصيرة أو طويلة الأمد؟ وإذا كان "الاتحاد" مصدر "القوة"، فهل اللبنانيون قادرون على تحقيق حدّ أدنى من "الوحدة"، وسط التباينات التي يعيشونها؟!

سيناريو ضعيف...

لا توحي المؤشرات، الداخلية منها كما الخارجية، بأنّ سيناريو حرب تموز يمكن أن يتكرّر في المدى المنظور، بل إنّ هذا الاحتمال، الذي كان عالياً قبل أشهر، يكاد يكون اليوم في أدنى مستوياته منذ انتهاء ما يحلو للإسرائيليين تسميتها بـ"حرب لبنان الثانية"، قبل عشر سنوات.

ولا شكّ أنّ "مظلة الأمان" التي تحوم حول لبنان، والتي يُحكى الكثير عنها، تشكّل أوّل هذه المؤشرات، فالاستقرار في لبنان بات مطلباً دوليًا وإقليميًا بالدرجة الأولى، كما بات الجميع يدرك. وبطبيعة الحال، فإنّ ذلك ليس "كرمى لعيون اللبنانيين"، بل فيه "مصلحة" الدول الكبرى، التي لا يناسبها انضمام لبنان إلى "حفلات الجنون" التي يشهدها المحيط، كلّ المحيط، خصوصًا في ضوء الدور الذي يلعبه في "إراحتها" من "كابوس" اللاجئين السوريين عبر استضافة العدد الأكبر منهم، وفي ظلّ الاستحقاقات "النفطية" المرتقبة، والتي لم يعد خافياً على أحد كيف أنّ هذه الدول تضع "عينها" عليها، وهي التي تضغط من أجل التسريع بها و"تبديد" الخلافات الداخلية حولها.

وأبعد من ذلك، فإنّ حربًا إسرائيلية على لبنان لا تبدو اليوم في مصلحة أحد، لا إسرائيل ولا الغرب، باعتبار أنّ المعادلة اليوم مختلفة رأساً على عقب عمّا كانت عليه قبل عشر سنوات. وعلى الرغم من صحة النظرية القائلة بأنّ إسرائيل قادرة على "استغلال" فرصة فقدان "حزب الله" للحدّ الأدنى من "التعاطف الشعبي" معه في البيئة العربية والخليجية على وجه التحديد لتوجيه ضربةٍ قاصمةٍ له، إلا أنّ نظرية عدم وجود مصلحة إسرائيلية مباشرة في مثل هذه الحرب تدحضها، خصوصًا أنّ إسرائيل، التي لا تزال تعيش تداعيات حرب تموز 2006 حتى اليوم، لا تبدو مستعدّة لتكرار التجربة، طالما أنّ المنطقة أصلاً "تحترق"، من دون أن "تحرقها" في طريقها. ولعلّ "المناوشات البسيطة" التي وقعت بين "حزب الله" وإسرائيل خلال السنوات الأخيرة تشكّل أكبر دلالة على ذلك، خصوصًا لجهة الحرص على إبقائها محدودة في الزمان والمكان، خشية الوصول إلى مواجهة قد لا تكون محمودة العواقب.

"نحن لها"؟!

سيناريو الحرب الإسرائيلية على لبنان ضعيفٌ إذاً، على الأقلّ في هذه المرحلة. ولكنّ التجربة علّمت اللبنانيين أنّ كلّ الاحتمالات تبقى واردة، مهما كان حجم ضعفها، خصوصًا أنّ كلّ شيء يمكن أن "ينقلب" في لحظة، لا أحد يعرف متى وكيف يأتي.

لهذا، فإنّ احتمال الحرب يفترض أن يبقى موضوعًا دومًا في الحسابات، وهو كذلك على الأقلّ في حسابات "حزب الله"، كما يؤكّد مسؤولوه وقياديّوه في كلّ مناسبة. أصلاً، الحرب النفسية التي يتفنّن بها الحزب ويحرص على "تكريسها" بشكلٍ شبه يوميّ تقع في هذه الخانة أولاً وأخيراً. فأن يخرج بين الفينة والأخرى مسؤولٌ في الحزب ليحذر الإسرائيليين من أيّ "مغامرة" أشبه بـ"الانتحار" ليس أمرًا عفويًا أو بريئاً، تمامًا كما أنّ تضمين خطابات الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله الدورية "معادلاتٍ حربيّة جديدة" من النوع "الردعي" بشكلٍ خاص يأتي أيضًا عن سابق تصوّر وتصميم، مع إبقاء عامل "الغموض" حول العديد والعتاد المتوفّر، لتعظيم مخاوف وهواجس الإسرائيليين، الذين يدركون أنّ ترسانة "حزب الله" تكبر أكثر مع كلّ يوم.

وعلى الرغم من أنّ البعض يتّهم "حزب الله" بـ"إضاعة البوصلة" بعدما انخرط خلال السنوات العشر الأخيرة بـ"جبهاتٍ جديدة" ضدّ "أعداء جُدُد" بالجملة، وإن كان يعتبرهم هو "النسخة الرديفة" عن "العدو الأصلي"، فإنّ ما يحرص مسؤولو الحزب على تأكيده للقاصي والداني يبقى أنّ كلّ هذه الجبهات في مكان، والجبهة الأصلية في مكانٍ آخر. "نحن لها"، يقول هؤلاء، منسجمين بذلك مع ما سبق للسيد نصرالله أن أعلنه في أحد خطاباته لناحية مواجهة أيّ حرب تُفرَض على الحزب(1)، في إشارة واضحة إلى أنّ الانخراط في الحرب السورية لم يؤثّر على جهوزية الحزب للحرب الإسرائيلية، بل إنّ المرابطين على الحدود الجنوبية لا يزالون في أمكنتهم، وبالعديد نفسه الذي كان عليه قبل الأزمة السورية، إن لم يكن أكثر، رغم كلّ ما يُروَّج بخلاف ذلك.

رأس مقطوع يواجه؟!

على المستوى العسكري، "حزب الله" للحرب بالمرصاد إذاً، جنباً إلى جنب الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية الأخرى. ولكن، هل يكفي المستوى العسكري في مواجهة حربٍ، خصوصًا إذا كانت حربًا كونيّة شبيهة بحرب تموز 2006، التي لا تزال الكثير من أوراقها غير مكشوفة؟ وماذا عن المقاومة السياسية والدبلوماسية، التي يفترض أن تسير جنبًا إلى جنب المقاومة العسكرية، وهي التي تفترض الحدّ الأدنى من التضامن؟

هنا، لا يشكّ أحد بأنّ هناك خللاً حقيقياً يستوجب المراجعة وإعادة النظر. فلبنان اليوم، سياسيًا، هو بالتأكيد أسوأ منه قبل عشر سنوات بأضعافٍ وأضعاف. لبنان اليوم يعيش برأسٍ مقطوع، في ظلّ الشغور الرئاسي المتمادي، والذي لا تلوح أيّ مؤشّراتٍ في الأفق لإمكان ملئه في القريب العاجل، وإن كانت "بورصة التفاؤل" على خطه تتأرجح صعوداً وهبوطاً بشكلٍ غير مبرَّر بين يومٍ وآخر. أما حكومة لبنان، التي سيكون عليها تصدّر صفوف المواجهة السياسية، فلا تبدو قادرة على ذلك، هي التي لا يتردّد البعض، ومن بينهم رئيسها ​تمام سلام​ ومكوّناتها المتناحرة فيما بينها، لحدّ توصيفها بأنّها "أفشل حكومة"، ربما في تاريخ لبنان المعاصِر. وإذا كانت هذه الحكومة فشلت في مواجهة أزماتٍ اجتماعية وبيئية خطيرة كأزمة النفايات، واعتمدت مبدأ النأي بالنفس حتى إزاء قضايا المواطنين الملحّة، فإنّ الرهان على دورٍ جدّي لها في مواجهة الحرب، أيّ حربٍ، لا يبدو أبداً في مكانه، بل لعلّه يكرّس مشهد "الدموع" الشهير في أحسن أحواله.

وإذا كان الكثير لا يزال يُقال عن "كواليس" حرب تموز، وكيف أنّ البعض كان "يتآمر" على المقاومة بسبب الخلافات السياسية، فإنّ المرء ليس بحاجة لـ"التبصير" ليدرك أنّ الوضع لن يكون إلا أسوأ حالاً، خصوصاً أنّ "التنافر" بين بعض القوى السياسية بات أقرب لـ"العداء"، "عداءٌ" لم تنفع طاولات الحوار لا الثنائية ولا الجماعية التي تمّ ابتكارها في "إخفائه"، خصوصًا بعدما بلغ الخطاب السياسي مستوياتٍ غير مسبوقة من الحِدّة، من دون ترك أيّ "خط للرجعة"، الأمر الذي يُخشى أن يكون "التضامن الوطني" من أبرز ضحاياه، وعندها قد لا ينفع الندم.

مكمن الخطر الأكبر!

لا أحد يريد أن تتكرّر الحرب اليوم، خصوصًا أنّ لبنان بشعبه ومؤسساته شبع حروباً وويلاتٍ، وخصوصًا أنّ الدماء التي سالت على مرّ التاريخ، ومن الجميع، في سبيل حريته، أكثر من أن تُعَدّ وتُحصى، والمؤسف أنّها لم توحّد اللبنانيين كما يفترض بها أن تفعل.

لا أحد يريد أن تتكرّر الحرب اليوم، ولكنّ الأكيد أنّ موقف لبنان لن يكون في أفضل أحواله، في حال فُرِضت عليه الحرب. فالجهوزية العسكرية، وإن كانت على أحسن أحوالها، وإن كانت قادرة على حسم المعركة الميدانية، يجب أن تسبقها وتلحقها جهوزية سياسية، يبدو لبنان أبعد ما يكون عنها اليوم، وهنا مكمن الخطر الأكبر!

(1)في كلمة له بتاريخ 30-01-2015، قال السيد نصرالله: "اذا كان العدو يحسب حساب أن المقاومة تخشى الحرب أقول له اليوم أننا لا نخشى الحرب ولا نخافها ولا نتردد في مواجهتها وسنخوضها اذا فرضت علينا وسننتصر باذن الله"، وأضاف: "لا نريد الذهاب الى حرب ولكن لا نخشاها ولا نهابها، نحن رجالها ومجاهدوها وصناع نصرها بعون الله".