بين بلدتي الهلالية والبرامية في جوار مدينة صيدا، يحافظ شاعر القصور على "فخامته"، اذ انه معروف بـ"شارع الاثرياء" الذين يملكون قصورا فاخرة تجمع بين الفن التراثي والعمران الحديث، ليمثل نموذجا عن معظم المدن التي يوجد فيها شوارع "غير شكل"، تقطنها في ذات الوقت طبقة من الناس هي الأخرى "غير شكل"، طبقة من "الباشاوات" والبيكوات" والاغنياء بعضها ابًّا عن جد، ولدت وفي فمها "ملعقة من ذهب" وبعضها الآخر كسبت الثروة بعرق الجبين بعد رحلة من الكفاح او الهجرة، ليستقروا جنبا الى جنب في شارع مميز في كل شيء، في قصوره وفلله كما في حدائقه وحتى طيوره واشجاره الفريدة من نوعها.
يقع شارع "القصور" بين بلدتي الهلالية والبرامية ويلاصق بحدوده الغربية مدينة صيدا التي يطل عليها كأجمل لوحة تجسد السماء والبحر والشاطئ معا، طوله لا يزيد عن كيلومتر واحد فقط، ولكنه يضم أجمل القصور اللبنانية، حيث أعرقها الجنبلاطي وأحدثها الحريري وقد نزل الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول ذات يوم ضيفا في احد قصوره التي كان لها دور بارز في رسم السياسة اللبنانية ابان الاستقلال.
وعند مدخل الشارع الجنوبي، يتربع قصر النائبة بهية الحريري الذي انجز بناؤه منذ بضع سنوات بعدما أخرته الحرب الاهلية، ولم تنتقل الحريري وعائلتها اليه رسميا رغم جهوزيته، اذ ما زالت تقيم في دارة العائلة في مجدليون "فيلا الحريري" كعنوان للعمل السياسي الذي شيده رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، لكنه قبل سنوات شهد على حفل زفاف نجلها المنسق العام لتيار المستقبل في لبنان احمد مصطفى الحريري على لمى البرجي.
القصر الجنبلاطي
في وسط الشارع التابع عقاريا لبلدية الهلالية، وعلى بعد مئات الامتار من قصر الحريري، ينتصب اعرق القصور تاريخيا واجملها فنيا على الاطلاق، قصر نسيب باشا جنبلاط الذي يعتبر واحدا من اجمل القصور اللبنانية، يملكه نسيب جنبلاط او نسيب باشا كما كان يعرف انذاك، وقد بناه جده قبل مئة سنة ونيف، كان يومها نسيب باشا قائمقام جبل لبنان وقد اختار موقعه بنفسه ليؤكد على الروابط القوية بين اهل المختارة مسقط رأسه وبين ابناء صيدا، وقد عهد نسيب باشا الى نائبه رشيد بك جنبلاط الاشراف على هندسة وبناء القصر الذي اصبح المسكن الشتوي لـ "الباشا"، في حين بقى قصره في المختارة مسكنه الصيفي، وبين القصرين كان يتابع نشاطه السياسي والاداري انذاك حيث شهد قصر الهلالية العديد من اللقاءات المهمة التي لعبت دورا كبيرا في حياة لبنان السياسية.
تبلغ مساحة القصر الداخلية حوالي 1200 متر مربع، وبنيانه مزيج متناسق ومتكامل من الفن الايطالي-الفلورنسي، وهذا واضح من خلال القناطر المتعددة التي تحيط بالقصر ومن خلال اعمدة الغرانيت التي تملأ جوانبه، فيما تطفو عليه لمسة من رياح الشرق وخاصة المزيج التركي الواضح فوق المداخل مثل الهلال والنجمة اللذين يمثلان العلم التركي، الا ان اروع ما في القصر الداخلي القاعة الشرقية او قاعة الفسيفساء التي تتوسطها بركة من الرخام وعمرها ما يزيد عن الـ200 سنة وقد اتى بها نجيب بك جنبلاط من احد قصور بلاد الشام وذلك عام 1936، واستغرق تركيبها في القصر الجنبلاطي ثلاثة عشر عاما.
اما حديقة القصر الجنبلاطي، فتعتبر واحدة من اكبر واجمل الحدائق في لبنان والتي تمتاز الى جانب العديد من انواع الاشجار والورود بنوع من شجر النخيل الذي لا مثيل له في لبنان وهذا النوع معروف باسم "النخيل الملوكي" وقد اهداه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الى نجيب بك جنبلاط والد نسيب بك من الجنس الذكر منعا للانجاب، علما ان القصر جنبلاطي نفسه كان في اليوم من الايام مركزا للقنصلة الفرنسية وعندما زار الرئيس الفرنسي شارك ديغول لبنان اقام فيه لعدة ايام في دلالة واضحة على الاهمية والفخامة التي يتميز بها.
جمال جنبلاط
ومن قصر نسيب باشا الى قصر جمال بك جنبلاط في بلدة البرامية العقارية، له تاريخ عريق من القرن العشرين، قام ببنائه رشيد ومجيد جنبلاط عام 1905 وكان عبارة عن بناءين منفصلين الاول لـ"رشيد" والثاني لـ "مجيد"، تم دمجهما في قصر واحد بعد ان اشترى رشيد من اخيه المبنى الاول عام 1923 وفيه اكبر شجرة صنوبر في لبنان.
سياسيا، شهد قصر جمال بك جنبلاط العديد من اللقاءات السياسية بين عامي 1939 و1943 لاسيما على الصعيد انهاء حكم الانتداب الفرنسي، وكما شهدت قاعات القصر في البرامية العديد من اللقاءات السياسية الساخنة فقد شهدت القاعات ذاتها العديد من المناسبات الحلوة ومنها حفل خطوبة المير مجيد ارسلان والاميرة خولة.
قصور وقوانين
والى جانبه يقع قصر حسين عسيران وتسكنه ارملته زهور عسيران كريمة الرئيس الراحل عادل عسيران، هذا القصر جنبلاطي المنشأ، اذ ان مالكه الاساسي الوزير السابق المرحوم خالد بك جنبلاط وقد باعه الى المرحوم حسين عسيران سنة 1971 وهو مؤلف من طبقتين وحديقة تتوسطها نافورة مياه غاية في الروعة والجمال، ويدون القصر تاريخا من خلال اقامة الرئيس عادل عسيران فيه لفترة خلال الحرب اللبنانية قبل ان ينتقل الى قصره في الرملية.
وفي هذا الشارع، قصور سعود الهاشم، عمر جنبلاط ومالك وفريد جنبلاط، ويشهد منذ عدة سنوات بناء مجموعة من الفلل تعود ملكيتها الى عائلات صيدواية معروفة مثل ال البساط وال الزعتري وال الحريري وال البابا وال زيدان وال عطاالله، وهذه الفلل التي تشبه بعضها القصور تمتاز جماليتها وزخرفتها والحدائق المحيطة بها، وتحرص بلدية البرامية على تحديد قوانين واتباع نموذج بناء موحد وذات مساحة وجمالية معينة، لتحافظ على رونق هذا الشارع وقصوره، بينما يجد الكثير من ابناء المنطقة فيه متسعا للمشي صباحا وغروبا في ظل اشجاره الوافرة ونسيمه العليل، ما يعطي انطباعا بالسكينة والهدوء تخلصا من مشاغل الحياة وضغط يومياتها.