بإعلانه الانتصار على انقلاب عسكري باء بالفشل، أوحى الرئيس التركي ​رجب طيب أردوغان​ مرّة جديدة بعد نتيجة الانتخابات الاخيرة أن حزب العدالة والتنمية يمسك بزمام الأمن والاستقرار في تركيا، وهو خير تمثيل للأكثرية في البلاد بعد أن سقطت هذه الهالة عنه عقب الاعمال الإرهابية المتنقلة التي ضربت تركيا كان آخرها استهداف مطار اسطنبول.

إن الأجواء في الداخل التركي قبل محاولة الانقلاب هذه، كانت وما زالت لدى فئة كبيرة انقلاباً في القناعات والخيارات على المستويين الشعبي بمعظم مكوناته والعسكري بمعظم درجاته لا سيما بعدما طفح كيل مجموعة عالية من الضباط والقضاة واصحاب الفكر في تركيا من ممارسات أردوغان.

الإنقلاب الحدث تفوق إعلاميا على العمل الإرهابي الذي تعرضت له "نيس" في فرنسا وطرح تساؤلات عدّة عن الجهة التي تقف وراءه. كان لافتا للنظر ان بعض الاعلام الموالي لأردوغان سارع الى توجيه أصابع الاتهام الى ضباط ​فتح الله غولن​، القيادي الاسلامي المدعوم اميركيا والمقيم في أميركا. سرعان ما تناقل هذا الخبر بكرة تدحرجت وكبرت حتى تفتت عند اعلان غولن نفيه هذا الاتهام لا بل ذهب الى حد شجب هذا العمل.

إن اتهام أميركا بالوقوف وراء محاولة الانقلاب هذه صبّ في مصلحة اردوغان. معروف ان ثمة تململا اميركيا كبر كثيرا منذ فترة لأسباب عدّة: أولها تقارب الرئيس التركي مؤخرا مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين والذي أعاد طائرة سياح روسية الى تركيا بعد غياب طويل، ثانيها عدم تلبية المطالب الأميركية بالنسبة لضرب الإرهاب، وثالثها محاولته إعاقة تقدم الكرد في الشمال السوري. هناك ايضا امتعاض اميركي ضمني من موقف تركيا المعادي لمصر عقب سقوط حكم الاخوان المسلمين ومن جهة اخرى إن الاتفاقيات النفطيّة والمائيّة التي وقعتها تركيا مع اسرائيل أزعجت بعض حلفاء أميركا في الخليج العربي.

كل هذه الأسباب وصلت الى حد اعتبار الرئيس الأميركي باراك اوباما في حديثه لمجلة أتلانتيك بان اردوغان استبدادي وفاشل. لعل أميركا رغبت فعلا بوضع حد لهذا الفشل الأردوغاني في السياسة الخارجية والاستبداد الداخلي. زاد في الغضب الأميركي على اردوغان ان تقاربه مع روسيا وإيران كان مرجّحا لتعديل موقفه من سوريا ما يعني سحب البساط من تحت اقدام أميركا وحلفائها في حلب. كما أن توقيت الإنقلاب اثناء زيارة وزير الخارجية الأميركية جون كيري الى روسيا بدا كرسائل مبطنة ولم تكن مصادفة.

بناء على ما تقدم فان اتهام أميركا في الضلوع بهذا الانقلاب له مبرراته ولكن، هل يعقل ان تتسبب أميركا باضعاف دورها وتقوية دور اردوغان بانقلاب فاشل؟ هذا غير منطقي. فالولايات المتّحدة لم تنتهج يوما سياسة إفشال الذات عمداً في الشرق الأوسط، فهل تفعل وهي تودع ولاية باراك اوباما؟ من المؤكّد لا، والدليل على ذلك انها تقدّم تنازلات لروسيا بغية إنهاء عهد اوباما ان لم يكن بإنجاز كبير بعد النووي الإيراني والمصالحة مع كوبا، فعلى الأقل بعدم الفشل والحرائق الإضافية.

اذاً فشل أميركا في هذه الفترة غير وارد كما ان الانزلاق بمرحلة تغييرية تركيّة قبيل انتهاء ولاية الرئيس الأميركي أمر بعيد كل البعد عن المعهود الأميركي.

فإذا على الأرجح ان اردوغان لمس لدى كل من روسيا وأميركا قرارا حازما بالحسم العسكري في سوريا بوجه داعش والنصرة ومثيلاتهما، وان انتصار الرئيس السوري بشّار الأسد واستمراره في السلطة بات أمرا محسوما خصوصًا وان روسيا ترفض الحديث حتى بموضوع بقائه او رحيله عن السلطة تاركة القرار للشعب. تدرك موسكو ان اي انتخابات رئاسية محسومة للاسد. هذه الهزيمة السوريّة لأردوغان وضعته امام احتمالين أحلاهما مر:

اولا: تغيير في سياسته الإقليمية ولا سيّما موقفه تجاه الرئيس السوري بشار الأسد الرافض اي مصالحة معه.

ثانيا: تنحّيه عن السلطة او مؤامرة للإطاحة به بانقلاب يخطط له المعارضون بدعم أميركي او روسي.

فانقلب السحر على الساحر وحصلت هذه المحاولة الانقلابية بساعات، ليعلن الجيش إمساكه بإدارة البلاد وقراره بوضع دستور جديد والحفاظ على العلاقات الدولية. اردوغان الذي لم يُعتقل في بداية الانقلاب لسبب لا يعلمه ربما الا هو، سارع الى دعوة أنصاره للنزول الى الشارع فسيطر على الانقلاب. وها هو يعتقل كل من أمل باعتقالهم منذ سنوات: آلاف الضباط والجنود والقضاة ولا شك انه سيكمل صنيعه الديمقراطي قريبا في إنجاز عجزت عنه اغلب الديكتاتوريات.

بات السلطان العثماني يعتقد انه قادر على مخاطبة الغرب والعرب بالقول ان ما قد يَأْتِي بعده من فوضى او من حكم آخر موال لأميركا او غيرها قد يشعل الجبهة التركية في الداخل وبعدها الإقليميّة في الخارج لتسقط عندها كل المبادرات.

مثل هذا الاعتقاد يفترض انه خرج منتصرا. فهل سيطر اردوغان فعلا الآن على الداخل والأمن التركي؟ وهل فعلا مصلحة حزبه هي من مصلحة الأمن القومي التركي والأمن الإقليمي في ظل المتغيّرات الاستراتيجية في المواقف الدولية؟ ثم ما مصير منظمة الاخوان المسلمين والأحزاب الداعمة له اذا ما أقر مجلس الشيوخ الأميركي بناء للاقتراح الذي قُدم بإدراج الاخوان على لائحة الاٍرهاب؟

ان الواقعية السياسية وبعيدا عن مسرحية الانقلاب الذي أُجهض، تدفع الى الاعتقاد بان اردوغان المستجلب خلفه فشلا بعد آخر، قد يكون هو سيد الإنقلاب على نفسه وهو الذي أفشله. ولو أرادت أميركا فعلا إسقاطه لكانت حرّكت كبار ضباط الجيش التركي في الأطلسي ضدّه وليس قائد بحرية متقاعد وبعض الضباط والجنود الذين قتلوا سريعا في شوارع المدن بينما السلطان يسجل فعل البطولة الوهمية على شاشة هاتف.

انتصر الهاتف الذكيّ على الإنقلاب... لا بد أن في الأمر ما يدعو الى الابتسام. قد يعرف العالم قريبا ما جرى لكن الاكيد ان الذي حصل يشبه كل شيء إلا الإنقلاب. ولا شك أن حلب في سوريا ستخبرنا اكثر قريبا عن تحوّل اردوغان او عناده الذي نقل تركيا من استراتيجية صفر مشاكل الى صفر استراتيجية فجاءت مهزلة الانقلاب لتخترع شيئا جديدا.