سواء فشل الانقلاب في تركيا أو نجح، فإنّ الرسالة التي أرسلها قسم من الجيش التركي شديدة الوضوح، وهي أنّ أعداداً لا بأس بها قد ضاقت ذرعاً بطغيان أردوغان وقمعه الشديد لكلّ صوت يعارض رؤيته وأهدافه واندفاعه المجنون لتدمير البلدان العربية، ودعم عصابات الإرهاب فيها فقط كي يتمكّن من تنفيذ مخططات آثمة وضعها أعداء الشعوب العربية بتمويل غربي. وأهمّ استنتاج من أحداث 15 تموز 2016، هو أنّ الأمور بنهاياتها وليست بمجرياتها، وقد لا تكون النهايات قريبة أو منظورة. في الشأنين السوري والعراقي بدا واضحاً جداً أنّ شعبيّ سورية والعراق يعتبران أردوغان مسؤولاً شخصياً عن تغذية وتأجيج الإرهاب في بلديهما، وأنّ يديه ملطّختان بدماء مئات الألوف من المدنيين السوريين والعراقيين، سواء استمرّ في الحكم لسنة أو لعقد أو لدهر من الزمن، فهذا هو حكم الله جلّ جلاله، وحكم الشعوب عليه. والعبرة ليست في عدد السنوات، ولكن في الحكم الذي سوف يطلقه التاريخ على شخص أو بلد أو موقف، وفي ذلك الوقت لن يكون هناك سكايب أو تويتر لتغيير هذا الحكم وإعادة العجلة إلى الوراء والاستقواء بالإعلام أو بالأصدقاء أو الشركاء. ولكن، للأسف، وفي سكرة القوة، نادراً ما يحسب الطغاة حساباً لليوم التالي لوجودهم، وكيف ستظهر صورتهم على ألسنة الناس، وعلى شاشات التلفزة قبل أن تسجل مرة وإلى الأبد في مدوّنة التاريخ للأجيال القادمة، وبالتأكيد فهم لا يتذكرون يوم الحساب الإلهي ولا العقاب الأبدي.

قبل حدوث محاولة الانقلاب الأخيرة في تركيا كانت وسائل الإعلام مشغولة بنشر التقرير الأمريكي ذي الخمس وعشرين صفحة عن أحداث الحادي عشر من أيلول، والأحداث والأسماء التي تناولها التقرير من رجال المخابرات السعودية الذين تربطهم علاقة وثيقة مع منفذي هجمات 11 أيلول 2001 في الولايات المتحدة، وقد سبق النشر ​مقالات​ لا تُحصى في الإعلام الغربيّ، ومداولات في الكونغرس الأمريكي عن خطر الوهابية وعلاقتها الوثيقة بالقاعدة، والحركات الأصولية والمنظمات الإرهابية في المنطقة والعالم. تماماً كما سبق محاولة الانقلاب في تركيا مقالات عدّة في الإعلام الغربي تتحدث عن مآزق الحكم في تركيا نتيجة تفرّد أردوغان في قراراته وإسكاته أيّ صوت قد لا يتّفق معه، وتصرّفه كسلطان أوحد في تركيا، وخطورة هذا الوضع على مستقبل تركيا والمنطقة والعالم. ولكنّ السؤال في المثالين السعودي والتركي هو أين المواقف السياسية الحاسمة التي أخذت كلّ هذه المعلومات بعين الاعتبار؟ أم أنّ الكتابة عن هذه الظواهر الخطيرة هي مجرّد تبرئة للذات من اتخاذ موقف، وتسجيل معرفة بما يجري، كي لا يقول أحد أننا لم نلامس ظاهرة ما أو لم نكن مدركين لخطر قادم؟

إنّ هذا الانفصام بين القول والفعل، أو بين التوصيف والمواقف الحقيقية هو ما سوف يستحقّ أقسى الأحكام من التاريخ ومن الأجيال القادمة أيضاً حيث لن يتمكّن أحد من التغطية على مواقفه أو تبريرها كما يشاء. ويحضرني في هذا الصّدد أيضاً مثال الاتفاق الغربي – الإيراني، والذي اعتبره الكثيرون نقطة تحوّل في العلاقات الأمريكية – الإيرانية. ولكّننا، ونحن اليوم نشهد مجريات الأحداث في العلاقات بين إيران والغرب، نجد أنّ هدف الغرب كان فقط إخراج المخزون الإيراني من اليورانيوم خارج إيران، بينما يرفض الكونغرس الأمريكي الالتزام بأيّ إجراءات أخرى لصالح إيران، وهي إجراءات منصوص عليها في الاتفاق ذاته؛ من تحرير أموال مجمّدة، إلى بيع للطائرات إلى إيران، إلى ما هنالك من بنود للاتفاق. وفي مراجعة للحرب على سورية، نجد أنّ استمرار هذا الاستنزاف ناجم أصلاً عن المفارقة بين القول والفعل للأطراف التي تستهدف هذا البلد، وترغب بتدميره خدمةً لإسرائيل، تماماً كما أنّ تدمير العراق وليبيا، وتقسيم السودان كان خدمةً للمشروع الصهيوني الذي يقطف اليوم ثمار كلّ ما تعرّضت له بلداننا العربية من اضطرابات دموية مفتعلة تحت عناوين اخترعت خصيصاً للنيل من الشعوب العربية، وإضعاف مقاومتها خدمةً لإسرائيل في معادلة الصراع العربي – الإسرائيلي، والذي تشكّل فلسطين فيه جوهرة التاج.

وفي قفزة تاريخية أكبر، من الجدير أن نستذكر في هذا المجال أنّ سكان الولايات المتحدة الأمريكية الأصليين قد عقدوا ثلاثمائة وسبعين اتفاقية مع المستوطنين الجدد على مدى عقود في محاولة منهم لقبول المستوطنين، والعيش بسلام معهم، ولكنّ هدف الاستيطان كان إبادة هذا الشعب المالك للأرض والتاريخ والتراث، وإقامة كيان آخر لا علاقة له بالماضي وإرث هذا الماضي وحضارته وروحانيته. العبرة في كلّ هذه الأمثلة المدرجة أعلاه هي أنّ التاريخ وحده هو الحكم على ما يجري اليوم وغداً، وقد يكون ما نراه سراباً أو منقلباً على الحقيقة، وقد يصدر التاريخ أحكامه بشكل لم نكن ندركه أو نتوقعه. ولكن المهمّ أيضاً هو أن نتفحّص التاريخ بأناة وحكمة كي نستقيَ منه العبر، فليس كالتاريخ ملهماً ومرشداً ودافعاً نحو الروية والحكمة. إذا كان هذا الكلام صحيحاً في أزمنة وأمكنة مختلفة، فإنه دقيق اليوم لأنّ عالم اليوم متغيّر بشكل متسارع، وشديد التشابك والتعقيد، ولا يمكن فهم مجرياته أو الحكم عليها من خلال نظرة أحادية، أو من خلال تحيّز أو حكم بالعواطف والاستهداف. إنّ الحكمة اليوم تقتضي أن نربط خيوط الأحداث، ونتأمّل الماضي من الأيام، ونتفهّم هذا الواقع المتلاطم والمتشابك كي نتمكن من إنارة درب المستقبل بشكل نستحقّ عليه الثناء من أجيالنا القادمة.