احتل الانقلاب الملتبس في تركيا دوائرَ الإعلام والتحليل والمتابعة، التي اشتركت فيما بينها بالالتباس والتخمينات، أو التحليل وفق الرغبات والأمنيات، دون التمكُّن من الارتكاز على الدلائل أو المعلومات الدقيقة والصحيحة، والمشكلة أن كل المتَّهمين خارجياً بالانقلاب ينفون أو يصمتون، أو يتجنّب أردوغان وحكومته توجيه الاتهام إليهم.

هذا الانقلاب يشكّل سابقة في تاريخ الانقلابات في تركيا؛ بفشله المباشر أولاً، واستثنائيته في أنه استطاع تفجير الدولة التركية شعباً وجيشاً ومؤسسات من الداخل بما يشبه حدوث عملية انتحارية، حيث فجّر الانقلابيون أنفسهم بالدولة التركية، سواء عن قصد، أو نتيجة الفشل في احتلال السلطة ونظام الحكم، والمشكلة الأكثر التباساً أن المتّهمين بتدبير الانقلاب يكاد يكون اتهامهم ساذجاً أو مزاحاً سياسياً ثقيلاً يقارب الفكاهة والمستحيل بالنظر إلى الآتي:

1- الاتهام لأردوغان نفسه بتدبير الانقلاب على نفسه للتمكُّن من مصادرة الدولة وإعادة بناء الجيش التركي، الذي يمثّل هاجساً مقلقاً لمشروع أردوغان الاستراتيجي، والمتمثل بـ"العلمانية الدينية" أو "الإسلام التركي الحديث"، حيث يرتكز على أن "ما لله لله، وما للسلطان للسلطان"، فالصلاة لله سبحانه تعالى، والحُكم للسلطان، وللصلاة أوقاتها ومساجدها، وللخمر و"إسرائيل" ساحاتهما، و"لا ضير في الجمع بينهما"!

2- الاتهام لأميركا؛ حليف تركيا الاستراتيجي، والتي تعتمد عليها كنافذة في الشرق الأوسط مع "إسرائيل" للإمساك بالمنطقة وتهديد روسيا وإيران، لكنها في المقابل الحاضن الأساسي لخصم أردوغان اللدود؛ فتح الله غولن، المقيم في بنسلفانيا، والمتهم من أردوغان بأنه يدير الدولة الموازية أو الدولة داخل الدولة عبر مناصريه في كل المستويات والقطاعات.

3- المتهم الثالث، والذي يثير الاستغراب، وهم الانقلابيون أنفسهم، والذين يكادوا يغيبون عن مسرح الأحداث إلا بشكل هامشي عبر أخبار اعتقالهم أو طردهم من وظائفهم، حتى باتوا المتهم الأضعف والمغيَّب عن الاتهام، حيث تم إظهارهم كأدوات منفّذة غير أساسية في المشهد، وأنهم انتهوا بمجرد إنجاز التمثيل الميداني لمجريات الانقلاب.

لكن الأهم: من هو قائد الانقلاب الحقيقي في تركيا؟ ومن هم المستفيدون؛ سواء نجح الانقلاب أو فشل؟ وما هو مصير تركيا بعد الانقلاب؟

الظاهر أن الإجابة على بعض الأسئلة غير متوفر الآن إلا في إطار التحليل، لكن المؤكد أن الأميركيين خصوصاً على علم أو تأييد للحركة الانقلابية حتى تاريخ فشلها، وهم يعملون على حماية المتّهمين، سواء في الداخل، عبر وقوفهم ضد إعادة العمل بعقوبة الإعدام، أو عبر رفضهم تسليم المتهم غولن، وكذلك فإن أردوغان متّهم وفي دائرة الشبهة، وفق بعض الوقائع المريبة، ابتداء من عدم إسقاط طائرته من قبَل الانقلابيين، مع تمكُّنهم من ذلك، بالإضافة إلى مشاركة مساعده ومستشاره العسكري في الانقلاب، والمستشار القانوني لرئيس الأركان الموالي لأردوغان، والذي اعتقله الانقلابيون ولم يقتلوه ثم أُطلق سراحه، ما يوحي أنه كان يدير الانقلاب من رئاسة الأركان بقناع الانقلابيين، والذي يثير الدهشة ويوجّه أصابع الاتهام لأردوغان وحزبه يتمثل في ما وُصف بالقرارات المسبقة التحضير والسريعة؛ بعزل آلاف القضاة غير المعنيين بالانقلاب، ورفع شعار تطهير الدولة والجيش من الخونة والعملاء (أنصار غولن ومعارضي أردوغان)، حيث تبيّن أن لوائح الأسماء جاهزة ومطبوعة قبل الانقلاب، حيث لا يمكن تحضيرها خلال ساعات كما حاول أردوغان الإيحاء بذلك.

لكن المهم في كل مجريات الانقلاب أن محور المقاومة المواجه للمشروع الأميركي وأدواته الصهيونية والتكفيرية هو المستفيد الأساسي، سواء نجح أو فشل الانقلاب، وسواء غاب أردوغان عن المشهد السياسي أو بقي فإن فشل الانقلاب المباشر يؤسس للصراع الداخلي التركي، ويقسّم المجتمع المدني ويصدّع الجيش والمؤسسات الأمنية وهيكلية الدولة، وهذا ما أظهرته القرارات الصادرة بعد الانقلاب، ما سيحوّل تركيا من لاعب أساسي ومتوحش في سورية إلى مريض يعالج نفسه من أمراضه الداخلية، ويساعد على إغلاق البوابة الرئيسية للمشروع الأميركي ضد محور المقاومة وقلبه في سورية.

ما كشفه الانقلاب التركي هو الفارق بين أردوغان التركي الذي يقاتل من أجل نفسه وأحلامه في السلطنة، ولو أحرق تركيا كما فعل نيرون، وبين الرئيس الأسد الذي يقاتل من أجل سورية والمقاومة، حتى لو دفع الأثمان الباهضة.. لقد قتل أردوغان نفسه حتى لو بقي في الحكم الذي لن يطول، فقد انتهت فترة صلاحيته أميركياً، كما جرى للحَمَدَين في قطر، وستبقى سورية والمقاومة تترقّبان قوافل الراحلين؛ من شيراك وساركوزي، إلى كلينتون، إلى الحَمَدَين وبلير وكاميرون ومرسي وغيرهم..