تابع اللبنانيون، أو قسم منهم، بكثير من اللامبالاة الجولات الجديدة لما يُسمّى بـ"الحوار الوطني" والذي ارتأى عرابه، رئيس المجلس النيابي نبيه بري، تكثيف جلساته ظنًّا بأن ما فشلوا بتحقيقه على مدار سنوات وأشهر، قد يتحقق في ثلاثة أيام إذا ما كانت الجلسات متلاحقة ويومية. فهل المطلوب أصلا من هؤلاء اللبنانيين التعاطي بجدّية مع "بدعة هيئة الحوار"، وأعضاء هذه الهيئة أنفسهم غير مقتنعين بجدواها ولا يقرّون بجديتها؟ ومن يشرح أو يبرّر قيام هذا التجمّع الذي يغتصب صلاحيات المؤسسات الدستورية الرئيسية في لبنان؟ وبخاصة صلاحيات مجلس النواب والحكومة من خلال مجرّد السعي للإتفاق على إسم كرئيس للجمهوريّة يذهب النوّاب لِمَسْرَحَةِ انتخابه وفقًا لدستورهم وليس وفقًا للدستور اللبناني، ناهيك عن تَحييكٍ لقانون انتخابي يقال أنه يجرب العمل عليه ولكن... حسب مقياس كل فريق سياسيٍّ يريد أن حفظ حصّته وكأنّ الناخب سلعةٌ تستعمل عند الحاجة!

ولا يختلف اثنان على مبدأ أن ​طاولة الحوار​ زادت من تشوّهات نظامنا البرلماني الديمقراطي لأنّها صادرت حقوق المواطن ونوّابه، الّذين من المفترض أن يكونوا أحرارا بتمثيلهم للشعب اللبناني ومؤتمنين على هذا التمثيل، فالوصول الى الندوة البرلمانيّة ليس بنزهة أو جاهٍ للنائبٍ إنما خدمةً للمصلحةِ العامّة، ولا يظنّن أحد أنّ التمديد مرّتين بِحُججٍ ومبرّرات تعفيهم من أنّهم ليسوا الا متمسّكين بأهداب السلطة للتسلّط.

فلا من يدّعي أنه من الأقطاب الّذين يتغيب معظمهم ويحضر ممثلون عنهم يمتلكون التفويض الشعبي المطلوب لاتخاذ قرارات مصيرية أوكلها الدستور اللبناني الى مؤسسات الدولة والقيمين عليها، ولا الهيئة بحد ذاتها لها مِنَ الشرعيّة التي تُلزم اللبنانيين بالسير بما تقرّره وتتفّق عليه. ولعل الحبر الّذي طُبِعَ به ما اصطُلِح على تسميتهِ بـ"اعلان بعبدا" كان أرخص بكثير من أن تستمّر هيئة الحوار، والدليل ما آلت اليه الأمور بعد ثلاثة أيّام حيث لم تَسْتَطِع أن تُطرّز الجديد! فهل بإمكانها أن تتعلّم كيفيّة شكّ الخَرَزْ؟ وما خَرَجَت به أقلّ ما سيروى عن هذه الهيئة أنّها لم تكن غالية الثمن فعلاً أكثر من الـ"إعلان" ودون أي مفعول دستوري يُذكر.

ولعلها من المرّات النادرة التي يتفق فيها المواطن والمسؤول على حدّ سواء، بأن "مَسْرحة هيئة الحوار" ليست الا لتقطيع الوقت بانتظار حلٍّ يأتيهم من خارج الحدود ويُفرضُ عليهم لتطبيقه بما يتلاءم مع الشكل الجديد للمنطقة وبما يتناسب مع مصلحة فارض الحلّ... ليبقى كل حديث وتسويق لـ"دوحة لبنانية"، بإشارة الى اتفاق محلي لبناني-لبناني شامل، مجرد تمادٍ مُخدّرٍ لا يُسمن ولا يغني من جوعٍ، وهو إمعان بتوجيه الضربات الأخيرة القاضية لنظام جرّدوه من كلّ مقوّماته ونكّلوا فيه شرّ تنكيل ومشوا في جنازته.