شكّل لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان اللقاء الحدث الذي طغى على الاوضاع خلال الايام الاخيرة، وهو الذي أتى ثمرة أول زيارة خارجية لاردوغان بعد محاولة الانقلاب، الأمر الذي يحمّله الكثير من الرسائل السياسية الهامة، نظرا لان موسكو كانت عدو الامس والحليف الاقرب اليوم.

ملفان اساسيان حضرا على طاولة اعادة تطبيع العلاقات بين البلدين "الاقتصاد وسوريا". التركيز التركي كان على الجانب الاقتصادي من العلاقات وهذا ما ظهر من التصريحات الاعلامية لاردوغان والمسؤولين الاتراك كما نال اهتمام الصحافة التركية، والملف الاخر هو ترتيب الاوراق واستقرار المنطقة لا سيما سوريا وهذا جل اهتمام الجانب الروسي في الوقت الحالي.

ابواب موسكو فتحت

الاعلامي والخبير بالشأن التركي ​دانيال عبد الفتاح​ اشار في حديث الى "النشرة" من العاصمة التركية أنقرة، الى ان اهم ما في موضوع لقاء "بوتين-اردوغان" ان موسكو هي التي فتحت الابواب واستقبلت اردوغان على عكس حلفاء انقرة كأميركا وأوروبا الذين لم يستقبلوه ولم يوجهوا له حتى دعوة للزيارة، وهذا الموضوع ينطبق ايضا على العواصم العربية والخليجية خاصة، لافتا الى ان بوتين منح اردوغان ثقة وشرعية اكبر بعد الزيارة، وهذا ما تحدثت عنه مصادر متعددة في القصر الرئاسي بأنقرة. وأوضح ان بوتين ركز خلال اللقاء على شرعية حزب العدالة والتنمية كما ان بوتين لم يعلق على قضية الاعتقالات ولا على قضية حقوق الانسان، على عكس الحليف الاوروبي والغربي الذي كان لديه اولوية في هذه القضايا التي تقلق اردوغان وتشكل حالة من عدم الرضا منه تجاه الحلفاء، وعلى العموم فان اللقاء يشكل استفزازا للحليف الاميركي والغربي.

بدوره، أشار المحلل السياسي في وكالة واذاعة "سبوتنيك" الروسية ​عماد طفيلي​ في حديثه الى "النشرة" من العاصمة الروسية موسكو، الى ان ​روسيا​ كانت من اول الدول الداعمة لشرعية اردوغان بعد الانقلاب، وقد اتصل به الرئيس الروسي لتهنئته بالسلامة ولتأكيد موقف روسيا الثابت في احترام سيادة اي دولة وان اي تغيير يكون بالاساليب الديمقراطية وليس العسكرية، واوضح ان اولويات روسيا هي ان يكون هناك استقرار في المنطقة المحيطة بها وفي كل العالم، والعمل على تجنب الحروب على عكس ما تقوم به الولايات المتحدة في تأجيج الصراعات في المنطقة. كما لفت إلى ان روسيا حريصة على الاستقرار في تركيا، موضحا ان احدا لا يعرف ماذا كان سيحصل بعد الانقلاب الفاشل، مشيرا الى ان الوضع كان سيكون اسوأ على سوريا وروسيا والمنطقة كلها لو نجح الانقلاب، ولهذا روسيا اتخذت موقفاً واضحاً وثابتاً وحاسمًا بعكس الدول التي كانت تتمنى ان تحصل فوضى في تركيا. ولفت الى ان اللقاء كان جيّدًا جدا لمصلحة روسيا وتركيا، وبالمقابل هناك تصريح اميركي يعتبر ان العلاقات الروسية-التركية ليست من مصلحتها، موضحا ان واشنطن بدأت تشعر بشيء من القلق من تطور العلاقة بين البلدين.

الاقتصاد هو "الاوكسجين"

وبحسب عبد الفتاح فإن النقطة الاساسية الثانية في موضوع اللقاء هي ان تركيا كان لديها مشاكل اقتصادية كبيرة، والانقلاب ادى الى خسائر فادحة في ​الاقتصاد التركي​، وهذه الخسائر ستظهر في الفترة المقبلة نتيجة سياسة التطهير التركية في مراكز الدولة والجيش، وهذ ما دفع اردوغان الى التركيز على الجانب الاقتصادي والتجاري، منوها الى ان العلاقة بين البلدين تعتمد في الاساس على هذه الجوانب، واردوغان ابرز الجانب الاقتصادي للابتعاد عن محور الموضوع الحقيقي وتقاطع المصالح مع روسيا في الاقليم والمنطقة، فالعلاقات التركية الروسية تأزمت بسبب سوريا.

بالمقابل اشار طفيلي الى ان العلاقات الاقتصادية بين روسيا وتركيا كانت جيدة ولكن حادثة الطائرة التي اسقطتها تركيا في تشرين الثاني الماضي فوق الاراضي السورية وترت الاجواء، إلا أنه لفت إلى أنّ الامر الجيد في الموضوع حاليا ان القيادة التركية تنصلت مما جرى واتهمت جماعة المعارض فتح الله غولن بأنها تقف خلف الحادث، وهذا يعني ان اردوغان اتخذ موقفا جديدا لفتح صفحة جديدة بالعلاقات، وبالتأكيد فإنه من مصلحة تركيا وروسيا تعزيز النشاط الاقتصادي بين البلدين، وكشف ان رفع الحظر الاقتصادي عن تركيا سيتم قريبا وبشكل تدريجي. وفي السياق، اشار الى ان الوضع الاقتصادي في تركيا صعب وهذا ما يدفعها بالدرجة الاولى الى التقارب بالعلاقات مع روسيا.

التحول الاستراتيجي

الخبير التركي اشار الى ان عودة العلاقات الى طبيعتها يعني انها ستكون مبنية على اصلاح الوضع او المنظور التركي في سوريا، والفكرة ان الروس منعوا الاتراك من النصر في سوريا وتنفيذ مشروعهم في سوريا، واليوم تركيا غيرت مفاهيمها ولم تعد تقول عن بوتين انه عدو او انه يعتدي على الشعب السوري واخرجت من قاموس لغتها قضايا اساسية كالتدخل الاستعماري الروسي وهذا كله يؤشر إلى تغير في وجهة النظر التركية واقترابها من وجهة النظر الروسية، وهذا الموضوع سيكون له ربما انعكاس كبير على مجمل الاحداث الميدانية في سوريا.

وكشف عبد الفتاح ان الاتراك يتحدثون بصوت عالٍ في انقرة عن ضرورة الانسحاب الكلي من سوريا ووقف دعم المنظمات المسلحة، والدعوات للانسحاب ارتفعت بعد الانقلاب والوجهة اليوم اصبحت للانتصار على المنظمات الارهابية ومن يحارب الشرعية والدولة ومن يحاول قلب انظمة الدول عسكريا، لافتا الى ان الرؤية تغيرت بالنسبة الى الانشقاق وتغيير الانظمة بقوة السلاح بعد تعرض اردوغان للخيانة في تركيا، والدعوات التركية اصبحت لعدم الكيل بمكيالين مع الاحداث السورية، ونبه في سياق هذه الدعوات الى ان اردوغان يقول انه ينفذ سياسات المجتمع التركي، وهو تحالف مع حزب الشعب التركي وهذا الحزب يناشد بعدم التدخل في سوريا.

بالمقابل، لفت طفيلي الى ان مقاربات روسيا لتسوية الازمة في سوريا لم تكن تتطابق مع تركيا في السابق، ما يعني انه في الوقت الحاضر لموسكو وانقرة هدف مشترك لتسوية الازمة السورية، مع الاشارة الى انه لدى روسيا هدف ثابت هو دعم الدولة السورية، واعتقد انه سيكون هناك اتفاق على الازمة السورية من منظور جديد وتنازل من الجانب التركي، لان الموقف الروسي ثابت وهو يدعو الى وقف دخول المجموعات المسلحة الى سوريا. وتمنى ان يكون لقاء بوتين اردوغان ايجابيًا بالنسبة الى حل الازمة السورية.

والسؤال الان هو، هل يتحول هذا اللقاء الى نقطة تحول استراتيجي في اوضاع المنطقة لا سيما سوريا؟ وهل يؤسس الى مرحلة جديدة تكون لمصلحة روسيا وحلفائها في المنطقة على حساب المحور الاميركي؟ وماذا ستكون ردة فعل اردوغان تجاه الدول العربية التي لم تلتف اليه في محنته؟ الوقت كفيل بكشف عميلة "تصفية الحساب" التركية التي اطلقها اردوغان في الداخل، والتي ستمتد الى الخارج قريبا بعد تثبيت وضعه داخليا.