اتخذ الرئيس رجب طيب أردوغان بعد الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا العديد من الإجراءات، منها عمليات تطهير واسعة شملت القطاعات كافة، وعلى رأسها الجيش والأمن والقضاء والتعليم والصحة، فأقدم على إيقاف 25.917 شخصاً للتحقيق معهم، ومنع 75 ألف مواطن من السفر، وقام بفصل عشرات الآلاف من الأساتذة والأكاديميين، وأقفل ما يقارب من ألفي مدرسة، وفصل واعتقل حوال ستين ألفاً من العسكريين وأفراد الشرطة والقضاة والموظفين الحكوميين والمعلمين، وثلث الجنرالات الأتراك البالغ عددهم 360 جنرالاً، وأقال 94 مسؤولاً في اتحاد كرة القدم، ورقّى 99 عقيداً إلى رتبة جنرال، وقد أصدر مرسوماً رئاسياً يقضي بنقل قيادة القوات البرية والجوية والبحرية التركية، التي كانت سابقاً تحت إمرة هيئة الأركان العامة، إلى سلطة وزير دفاع البلاد، وعزم على وضع وكالة الاستخبارات ورئاسة الأركان العامة للجيش التركي تحت سلطته المباشرة.

لقد اتخذ أردوغان من هذا الانقلاب ذريعة لتصفية حساباته مع خصومه، وبشكل أساس مُنافسه الأبرز والأخطر عليه فتح الله غولن، لأن الفريق الأساس الذي اعتمد عليه "حزب العدالة والتنمية" منذ تولّيه الحكم عام 2002 تخرّج معظمه من مدارس وجامعات غولن.

هذه الإجراءات القاسية قد تساعد أردوغان في زيادة تسلُّطه، لكنها ستزيد من حذر الأحزاب المعارضة، وقد ذكرت بعض المعلومات أن الأسباب الرئيسة لفشل الانقلاب هي في إبلاغ قائد الجيش الأول أردوغانَ بالانقلاب قبل ساعات من بدئه، وطلب منه مغادرة مقرّ إقامته في مرمرة قبل الانقضاض عليه لقتله أو اعتقاله، والنزول الفوري والواسع للشعب إلى الشارع في اسطنبول بناءً على نصيحة دولة صديقة.

هذه الإجراءات قد لا تُغلق الباب أمام انقلابات أخرى، خصوصاً أن الأسباب الخارجية التي تجلّت بالرغبة الأميركية في نجاح هذا الانقلاب (إن لم نقل في دعمه)، نتيجة توتّر العلاقات مع أردوغان في الفترة الأخيرة، بسبب الخلاف الحاصل في رفض المطلب التركي بالمنطقة العازلة، وفي الدعم الأميركي لأكراد سورية، وفي الإنفتاح التركي الجديد على إيران وروسيا.. هذه الرغبة الأميركية قد تتجدد، وإن كان هذا الاحتمال يبدو ضعيفاً في هذه المرحلة.

إن المعطيات التي تشكّلت لدى أردوغان عن مسؤولية أميركا في هذا الانقلاب، قد تدفع بتركيا إلى تغيير سياسته الخارجية، خصوصاً في ما يتعلق بالأزمة السورية، وسيبدأ هذا التغيير باستدارة بطيئة نحو إيران وروسيا، لأنهما دعمتا أردوغان، وكذلك تقديره لموقف الرئيس السوري بشار الأسد، حيث قال إنه رغم العداء الذي وصل حد الدم بينه وبين نظيره التركي إلا أنه دان الانقلاب، بينما الحلفاء طعنوه في الظهر، وهذا ما سينعكس إيجاباً على الأزمة السورية، ويجعل أردوغان أقلّ تطرُّفاً من ذي قبل، ويتراجع عن مقولة إسقاط الرئيس الأسد، حسب ما نقلت مصادر مطلعة، لكنه في المقابل لن يعادي أميركا التي تربطه بها علاقات استراتيجية، فتركيا جزء من الحلف الأطلسي، الذي لديه قاعدتان عسكريتان في انجرليك وازمير، إضافة إلى منصّات الصواريخ، وهي ماتزال تطمح في الدخول إلى الاتحاد الأوروبي، رغم صعوبة الأمر، إنما ستعمل على إيجاد نوع من التوازن في العلاقات مع أميركا وروسيا وإيران.

تركيا بعد الانقلاب هي غير ما قبله، وعلى أردوغان أن يقرأ الأحداث الأخيرة جيداً، وأن يستخلص منها العبَر، ويتعرف إلى أصدقائه الحقيقيين، ويميّزهم عن حلفائه المخادعين، وأن يفكّر جيداً فيما قاله الإمام الخامنئي في لقائهما الأخير في إيران؛ بأن "الوهابية" لا أمان لها.