خلال الشهرين الاخيرين، حفلت الروزنامة المسيحية في لبنان بالكثير من أعياد القديسين الذين ميّزوا هذا البلد ورفعوا شأنه في العالم، دون ان يطلبوا جاهاً ولا مردوداً ولا زعامة. وعلى الرغم من ذلك، يتنامى الى مسمعي كلام صادر عن اشخاص لا يتركون مناسبة الا وهاجموا فيها القديسين ونعتوهم بصفات أقل ما يقال عنها انها "معيبة" وتعكس ميزة الحقد والشر التي تختلج نفوس هؤلاء الاشخاص.
لا يحتاج القديسون الى من يدافع عنهم، وليسوا بحاجة الى ذلك، ولكن كلمة حق يجب ان تقال وهي ان الناس منقسمون الى خمس فئات:
-الفئة الاولى تعرف تمام المعرفة معنى القداسة والقديسين ومكانتهم عند الله، وبأنهم لم ولن يسعوا يوماً الى تنصيب انفسهم كآلهة، بل كان همّهم ان يبشروا الناس بالإله الحي وبمشروعه الخلاصي وبأن يقربوهم من السماء ويتقاسموا معهم فرح اللقاء بالخالق.
-الفئة الثانية أخذتها العواطف الجيّاشة وبعض الأفكار والمعتقدات الخاطئة ووضعت العذراء والقديسين في مكانة الله، ولكن الإيمان ومحبتهم لله كفيلة بإعادتهم الى الطريق المستقيم والمفهوم الحقيقي لمعنى القديسين والقداسة.
-الفئة الثالثة وهي الفئة الملحدة التي لا يعنيها الله ولا تقيم وزناً للأديان كافة، وبالتالي لن يكون من المستغرب ان تهاجم القديسين والانبياء والرسل وكل من يدعو الى الله.
-الفئة الرابعة وهي التي تنتمي الى غير الدين المسيحي، فهي تنتقد القديسين وتعتبرهم تجسيداً سيئاً لعبادة الله وترى ان كل من يلجأ اليهم إنما يعبد الاوثان، وهو مفهوم خاطىء بطبيعة الحال لانه كما سبق وأشرنا، فإن القديسين لا يقومون مقام الله بل هم شهادة حيّة اختارها الله بعنايته ورحمته لتشجيع الناس على التقرب منهم واظهار محبته اللامتناهية لهم.
-الفئة الخامسة هي الاكثر إيلاماً وايذاء، فهي شريحة من البشر تؤمن بالله وبابنه يسوع المسيح، ولكنها تهاجم العذراء مريم والقديسين، وتعمل على نشر صورة سيئة عنهم بالاستناد الى معتقدات الفئة الثانية للقول بأنهم (اي القديسين) يسعون الى الحلول مكان الله وهو أمر لا يجوز. ولكنهم في المقابل، يشيدون ببولس الرسول (وهو أمر جيد) ويميّزونه عن غيره دون أن يقولوا أنه قدّيس، فتكون الكلمة هي المشكلة!
إذا انطلقنا من المنطق الإنساني وبغض النظر عن المفهوم الإلهي والديني، نسأل: كيف نهاجم اشخاصاً لم يقدّموا سوى الخير، ولم يعرف عنهم سوى انهم كرسوا انفسهم لله ولمحبته على مدار الساعة طوال الساعات والايام؟ ما الخطأ الذي اقترفه القدّيسون ليعاملوا من قبل البعض بهذه الطريقة؟ هل اذوا احداً بالكلام او بالفعل؟ هل بشّروا بالشرّ وبالإجرام والبغض والكراهية، أم طلبوا اموالاً أم زعامة أم اتباعا؟
أليس القديسون انفسهم من يتوجّه اليهم الناس، من مختلف الأديان والإنتماءات الدينية والعرقية، بالدعاء وتستجاب دعاءاتهم بقدرة الله وبقوّته عبر قديسيه؟ ألا يستقبلون يومياً المئات من الناس الذين قدموا للصلاة والتأمّل والعودة الى الذات والله؟
من الظلم فعلاً التهجّم على القدّيسين لمجرّد أننا لا نحبّهم او أننا وضعنا افكاراً مسبقة عنهم صنّفناهم فيها بأنهم "مجرمون وكاذبون"...
أما من الناحية الدينيّة، فعلى الجميع أن يفهم مرة واحدة وأخيرة ان العذراء مريم والقديس، أياً يكن هذا القديس، لا يضع نفسه في مرتبة الإله، وليعد كل شخص الى سيرة القديسين والى ما كتب من عايشهم، ليعلم أنّ كل ما أرادوه هو إرضاء الله والسير على الطريق التي رسمها من أجل الخلاص، وان القداسة هبة مجانيّة من عند الله مخصّصة لكل واحد منّا شرط الإيمان به والعمل وفق توصياته. ولعل ابرز دليل على ان القدّيسين ليسوا الله، هو انهم كانوا يخطئون ولكن الفارق انهم بذلوا كل جهدهم لتحويل طريق الخطيئة عنهم، ونجحوا بذلك عبر الصلاة وتسليم ذواتهم لله، فكانت الوسيلة الأنجع لتحقيق غايتهم، وهذا ما ميّزهم عنا.
لا يقوم القديس بالأعجوبة من تلقاء نفسه لأن لا قدرة له شخصياً عليها، بل تحصل بقوّة الله الذي رضي عن قدّيسيه وسمح بذلك. هل يُمكن لأي احد أن يقول بصدق وبأمانة انه خلال تواجده في عنّايا او جربتا او كفيفان لا يشعر بدفء الايمان والمحبّة، وأن افكاره تتجه تلقائياً الى السلام الداخلي والتقرب من الله؟ هل تخالجه مشاعر الشرّ أم انها تأخذ فرصة وتنتظر على ابواب القديسين لأنها لا تتجرأ أن تدخل لعلمها بأنه مكان مخصص لله ولمحبته فقط؟
لن يتأثّر القديسون بالكلام، أكان من باب المديح او من باب التهجّم، لأنّهم حصلوا على ما يريدونه وهو محبّة الله، فلا الإشادة بهم ستغيّر محبتهم له ولا التجريح بهم سيبعدهم عنه، لكنه في المقابل سيبعد صاحب هذا الكلام المسيء عن الله، لأنّ الله محبة ومن يسيء الى القديسين فهو يسيء الى الله لأنّهم من اتباعه وعملوا وفق رغباته وتوصياته وهم دعوا للايمان به.
على اي حال، فإن القديسين الذين اتّخذوا المسيح مثالاً لهم، يعلمون تماماً ان الإحتكام الى العدالة البشرية ليس الهدف، إذ "ليس من تلميذ أعظم من معلّمه"، واذا كان المعلّم (أي المسيح) قد عومل بهذه الطريقة على الارض، فكم بالحري اتباعه؟
سينتقدني البعض من أجل وجهة نظري هذه، وسيؤيدني البعض الآخر، ولكن الهدف كان أن يعي كل واحد منّا انه من غير المنصف مهاجمة اشخاص لم يقوموا بأي عمل خاطىء او اذية لأيّ شخص، اياً تكن اسبابنا، لأنّ هذا الامر سيبعدنا عن هدفنا ويقربنا الى الشرّ من حيث كنّا ندري أو لا ندري.