"البلد مش ماشي". كل الوقائع الدستورية والقانونية تشير الى ان الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية في تدهور متواصل. الازمة السياسية لم تزل مستحكمة عند مفصل الرئاسة الاولى. القرار الايراني بعدم انتخاب رئيس هو الأبقى، والفساد يبدو الاقوى في البلد، واصوات الاعتراض على هذا التدهور لا تتخذ اشكالا مألوفة، كأن نشهد تحركات نقابية او تظاهرات في الشارع. والاعتراض يأخذ شكلا تدميريا يتناغم مع سياسة تدمير الدولة، الجارية بايدي الحكام انفسهم.

يمكن القول ان الاعتراض هذه المرة هو على الانهيار في نتائجه التدميرية على المجتمع والمؤسسات. ليس خفيا ان نسبة الجرائم في لبنان تزداد، وان السجون لم تعد تحتمل زيادة في اعداد المساجين. فالنظارات مكتظة، واجهزة الامن المعنية متلهية بنقل المحتجزين والموقوفين من سجن الى آخر بسبب ضغط الاعداد. ربما علينا ان نشكر القوى الامنية على جهودها، لكن في المقابل يجب الانتباه الى ان هذا الواقع المزري في المخافر فتح على شهية الفساد لدى البعض. اخلاءات السبيل تتم بشروط اسهل هذه الايام بضغط العدد والتدخل السياسي الذي صار هذه الايام وسيلة استقطاب وسبيل سلطة في زمن الشحّ المالي.

المخدرات ليست جديدة في لبنان لكن العصابات تتحرك بيسر وتستقوي بتدهور الاوضاع المعيشية وبعجز الدولة ان ارادت مواجهة هذه العصابات بسياسة جدية وفاعلة. الاتجار بالسلاح سلعة رائجة. الذاهبون للقتال في سورية يحق لهم بتشريع حزبي ان يأتوا بالسلاح من سورية باعتباره غنائم حرب. تجارة السلاح هذه وتغلغلها يكشفه اخلاء سبيل احد المحكومين في آذار الماضي، ببيع سلاح ومتفجرات للذين نفذوا تفجيري برج البراجنة الانتحاريين العام الماضي. بائع السلاح ومزود التكفيريين بالمتفجرات تم الافراج عنه، ولا تسأل عن السبب. استمرار سجنه هو العجب. هكذا يجب ان نفكر في لبنان.

البلد يتداعى وصفقات النفايات لم تعد تحرك ساكن المجتمع. ما قاله رئيس الكتائب سامي الجميل عن الفساد في صفقات النفايات يصح فيه القول: "وشهد شاهد من اهله". نعم استقال حزب الكتائب من الحكومة، وهذا يسجل للجميل، لكن الرئيس الشاب يقول ما يقوله الناس وهو يقدم الاثباتات. لا يهتز البلد ولا الحكومة ولا "اشرف الناس"، باعتبار ان كرامة الجميع محفوظة "الا الكرامة ما حد يمسّ فيها". الكرامة منعا للالتباس وسوء الفهم هي لا تتحقق بمعاقبة الفاسدين، لا سمح الله، ولا بتطبيق القانون لا قدر الله، ولا بانتخاب رئيس للجمهورية اليوم قبل الغد لا رعاك الله، الكرامة تتحقق من انفاس الزعيم وبسمته وثرائه وقوته وبطشه.

لذا لا يجوز الربط قانونا ولا شرعا (والاخيرة جريا على ما نشهده هذه الايام من احكام شرعية وفتاوى في ما يجوز ولا يجوز، في الفرح، من زوطر الى صيدا) بين الكرامة والحق بالحصول على الماء او التيار الكهربائي او العمل، او حق السكن و... ذلك ان هذه الحقوق البسيطة لا يمكن ان ترقى الى متطلبات كرامة اللبناني. هكذا مثلا يخرج بعض الناشطين في صيدا على سبيل المثال ليطلقوا حملة ضد مهرجانات صيدا لأن فيها فساد. اعوذ بالله: كيف لا يستفزكم كل هذا الفساد باسم الدين، كل هذا النهب للمال العام باسم الطائفة، كل هذا الموت والقتل والتكفير...وفقط حفلة غنائية في صيدا هي التي تتحداكم في الدين؟

"البلد منو ماشي" ولا يتفاجأن احد بأن الشعب لا ينتفض على تجار دمه وماله ومستقبله. السلطة افسدت المجتمع. نعم افسدته. وهذه المرة جيّرت كل الطاقة المذهبية والدينية للافساد. لم يعد نهب المال العام، ولا سرقة حقوق الناس ولا الاثراء غير المشروع، جرائم يحاسب عليها. الجريمة هي ان تفضح هذه الجريمة وتطالب بمعاقبة مرتكبيها. كشف فساد واحد من المرتكبين ومحاسبته هو الجريمة باعتبار ان من يسرق في بلادنا مالا عاما او يصادر مشاعا او حقوقا هو حكما يستند الى سلطة دينية او مدنية. وفي الحالين هو لن يعاقب. البلد يتلاشى. وليطمئن الزعماء ان الشعب لن يقوم ضدهم ولن نشهد تحركات جامعة بعد الآن. ما سيجري هو اخطر في مسارات السلطة، كالتي نراها في لبنان. والارجح نهايات مأساوية على رموزها ومدمرة للبلد ستسبق ايّ امكانية لتحولات ديمقراطية بعيدة ومحتملة.