بدأت تظهر نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، بعد شبه الانهيار الحاصل داخل الحزب الجمهوري، والانشقاقات المتتالية، إضافة إلى التصريحات المعادية والمتزايدة لمرشحه دونالد ترامب، من قبل قيادات مهمة في الحزب نفسه، ومن مجموعات من مؤيدي الحزب التقليديين، ما يوحي بأن المرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون ستنجح في الانتخابات المقبلة، في 8 تشرين الثاني (نوفمبر)، بفارق كبير.

ماذا، بالنسبة للمنطقة ولبنان، إذا حصل ذلك؟

سياسة هيلاري كلينتون الخارجية، خصوصاً تلك المتعلقة بالشرق الأوسط، ستكون مختلفة، إلى حد كبير، عن سياسة أوباما، تحديداً بالنسبة إلى دور أميركا في العالم الذي ستعيده كلينتون إلى سابق عهده، لجهة انخراطه في السياسة الدولية، وقيادته مجدداً حلفاء أميركا، خصوصاً الأوروبيين، مقارنة بسياسة أوباما المتمثلة بـ «القيادة من الخلف» التي جعلت أوروبا تضيّع بوصلتها. يقول جيريمي باش، كبير مستشاري كلينتون للشؤون الخارجية والمقرب جداً منها: «إنها ترى أهمية القيادة الأميركية كمبدأ أول وتؤمن بأن المشكلات حول العالم تحل بشكل أسرع إذا كانت أميركا مشاركة في حلها».

روسيا

علاقة كلينتون مع روسيا ستكون أكثر صرامة. علاقتها الشخصية ببوتين ليست جيدة. فبعد الانتخابات البرلمانية الروسية سنة 2011 أصدرت كلينتون بياناً قاسي اللهجة، وكانت وزيرة للخارجية في حينه (وحتى سنة 2012)، تنعت فيها الانتخابات بأنها «غير شريفة وغير منصفة.» حصلت بعد ذلك تظاهرات صاخبة في مدن عدة في روسيا احتجاجاً على الانتخابات ما أثار غضب رئيس الوزراء الروسي في حينه، فلاديمير بوتين، الذي اتهم كلينتون بأنها أعطت الإشارة للاحتجاجات التي «حظيت بمساندة وزارة الخارجية الأميركية» على حد قوله. وفي سنة 2014، وبعد أن ضمت روسيا القرم، هاجمت كلينتون بوتين شخصياً واصفة إياه بـ «هتلر». ما استجلب من بوتين القول «إنه من الأحسن عدم التجادل مع امرأة». ولا يخفي بوتين شعوره السلبي تجاه كلينتون وتخوّفه من نجاحها في الانتخابات الرئاسية. وتنقل عنه جريدة الأوبزرفر البريطانية قوله في مؤتمر صحافي في نيسان (أبريل) الماضي: «بيل كلينتون كان رئيساً لدورتين متتاليتين. الآن لزوجته طموحات (رئاسية). العائلة قد تبقى في السلطة. وكما يقولون في روسيا فإن الزوج وزوجته يمثلان الشيطان نفسه».

سورية

يقول جيريمي باش إن «أول مهمة رئيسية» ستقوم بها كلينتون بعد تسلمها مهام الرئاسة هي إعادة النظر في سياسة أميركا تجاه الحرب السورية. ويقول إن مبادئ سياستها تشمل «التأكيد على الطبيعة الإجرامية لنظام (الرئيس بشار) الأسد، والعمل على إطاحته، وتكثيف الحملة على داعش في الوقت ذاته». وبإشارة إلى سياسة أوباما «الواقعية»، فإن سياسة كلينتون تجاه سورية ستتحلى بـ «وضوح أخلاقي». ولا بد من التذكير هنا بأن كلينتون، بالاشتراك مع الجنرال دايفيد باتريوس الذي كان رئيساً لوكالة الاستخبارات الأميركية، قدمت، عام 2012، خطة لتسليح «نخبة مختارة من المقاومة السورية» لقلب نظام حكم الأسد، على أن تشكل هذه النخبة بعد ذلك المحاور الرئيسي للأميركيين. هذه الفكرة، التي تشمل خلق «مناطق آمنة» لحماية المدنيين، ما زالت موجودة على موقع الإنترنت لحملة كلينتون، علماً بأن الحل النهائي بالنسبة إليها يبقى الحل السلمي.

إيران

تفاخر هيلاري كلينتون بأنها كانت اللاعب الرئيسي في إقناع المجتمع الدولي بوضع عقوبات صارمة على النظام الإيراني، وبأنها كانت وراء تأسيس مجموعة الدول الست التي فاوضت إيران حول برنامجها النووي. وكانت هي بالأساس من ذهب سراً إلى عُمان عام 2011 لمقابلة السلطان قابوس لمعرفة حقيقة العرض الإيراني الذي وصلها من رسول قابوس حول استعداد إيران لمفاوضات مع أميركا تشمل برنامجها النووي ومساندتها «حزب الله». إلا أنها، على رغم تأييدها للاتفاق الذي توصلت إليه إدارة أوباما بعد تركها وزارة الخارجية، تعتبر أنه كان بإمكان أميركا الحصول على اتفاق أفضل، خصوصاً لو أن أميركا كثفت العقوبات خلال المفاوضات، واتخذت موقفاً أكثر صرامة. على كل حال، فإنها تعتقد، بحسب حديث أعطته في تشرين الأول (أكتوبر) من السنة الماضية نقلته «نيويورك تايمز»، «أنه ليس كافياً أن يقال نعم لهذا الاتفاق. علينا أن نقول نعم، وإننا سنطبقه بحيوية ويقظة. نعم، وإننا سندخله ضمن استراتيجية أوسع لمجابهة سلوك إيران السيء في المنطقة. نعم، سنبدأ منذ اليوم الأول بوضع الشروط لتعلم إيران بأنها لن تستطيع أبداً الحصول على سلاح نووي».

إسرائيل

من المعروف أن علاقة أميركا بإسرائيل ومساندتها لها لا يتغيران جذرياً مع تغيّر الرئيس. إلا أن نوعية هذه العلاقة قد تتأثر من رئيس إلى آخر. كثير من اليهود الأميركيين يساندون المرشح الجمهوري للرئاسة، دونالد ترامب، وقد أسسوا موقعاً على الإنترنت بعنوان «اليهود يختارون ترامب». سببان رئيسيان لذلك. من جهة، فترامب يعارض الاتفاق حول برنامج إيران النووي، ومن جهة أخرى، له الفضل في تبني الحزب الجمهوري في برنامجه الانتخابي أقوى نص مساند لإسرائيل حتى اليوم («مساندة إسرائيل هي تعبير عن أميركية الشخص». القدس عاصمة إسرائيل الأبدية. نقل السفارة ألأميركية إلى القدس.ألخ.). بالمقابل، فإن موقف كلينتون من الاتفاق النووي الإيراني لا يجاري موقف ترامب، وبرنامج الحزب الديموقراطي لا يجاري، في هذا المجال، برنامج الحزب الجمهوري. إضافة إلى ذلك فإن من أقرب المستشارين لكلينتون للشؤون الخارجية هو سيدني بلومنثال أحد أكثر الأشخاص عداءً لإسرائيل، لا يسبقه في هذا المجال سوى ابنه ماكس. سيدني بلومنثال عمل لمدة قصيرة مع جريدة «الأخبار» اللبنانية، لكنه تركها لميولها الإيجابية تجاه بشار الأسد. وكثير من اليهود الأميركيين والإسرائيليين لم ينسوا بعد تبادل القبلات بين كلينتون وسهى عرفات عام 2000 عند زيارة الأولى للضفة الغربية، خصوصاً أن سهى عرفات تكلّمت يومها، في حضور كلينتون، عن الدولة الفلسطينية، واتهمت الحكومة الإسرائيلية بتسميم النساء والأطفال الفلسطينيين بالغازات السامة.

لبنان

من الطبيعي ألا يكون لبنان في وسط اهتمامات هيلاري كلينتون في الوقت الحاضر سوى أن شعورها تجاهه معروف وواضح. ففي نيسان من عام 2009، قصدت أن تزور لبنان في طريق عودتها من العراق، ولو لساعتين، لتعبّر بوضوح عن موقفها من البلد ومن انقساماته. في تصريح لها خلال الزيارة قالت كلينتون: «أود أن أؤكد للبنانيين أن الولايات المتحدة لن تبرم أية صفقة مع سورية تبيع فيها لبنان واللبنانيين. لقد مررتم بمصاعب بما فيه الكفاية ومن حقكم أن تعطوا فرصة لكي تأخذوا قراراتكم بأنفسكم». من جهة أخرى أظهرت كلينتون يومها انحيازها ضد «حزب الله»، ليس فقط من خلال كلامها الرسمي، بل أيضاً من خلال رمزية زيارتها لقبر الشهيد رفيق الحريري، على رغم قصر مدة وجودها في البلاد. وفي عام 2011، عندما تم إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري، وتكليف الرئيس نجيب ميقاتي تأليفها بدعم من «حزب الله» وأفرقاء آخرين، هدّدت وزيرة الخارجية كلينتون بأن ذلك «سيكون له تأثير واضح على علاقاتنا الثنائية».

ماذا ننتظر؟

عطفاً على ما تقدّم، ماذا علينا أن ننتظر إذا نجحت هيلاري كلينتون في الوصول إلى سدّة الرئاسة الأميركية؟

أولاً: ستكون هناك مواجهة ديبلوماسية بين الولايات المتحدة وروسيا على جبهات عدة، خصوصاً الجبهة السورية. روسيا تريد موطئ قدم في سورية وقد حققت الكثير منه بالسيطرة على معظم الساحل السوري من جنوب دمشق حتى حلب. أسست قواعد حربية، جوية وبرية وبحرية في هذه المنطقة، كما وقّعت مع النظام السوري معاهدة من دون أفق زمني، تحمي قواعدها، وتعطيها نفوذاً سياسياً طويل الأمد. هناك ما زالت جيوب كبيرة معادية قبل اكتمال موطئ القدم، لكن خطوطه العريضة أصبحت واضحة. لا شك أن هذا التمدد الروسي سيكون نقطة احتكاك، إن لم نقل مواجهة، بين كلينتون وبوتين. سلاح كلينتون ما زال موجوداً وفعالاً وهو «الخطة باء» التي كانت موضع بحث في الإدارة الأميركية ولم تحظ بموافقة الرئيس باراك أوباما. الخطة باختصار هي أن تقوم الولايات المتحدة بإعطاء المعارضة السورية ما يكفي من السلاح النوعي للوصول إلى ستاتيكو ينهك الاقتصاد الروسي، المنهك أصلاً، ويجبر روسيا على الانسحاب كما فعل الاتحاد السوفياتي في أفغانستان عام 1989، أو، على الأقل، التفاوض مع أميركا من موقف ضعف.

ثانياً: ستحاول روسيا أن تستغل المدة المتبقية من عهد أوباما لكي تحقق ما تستطيع في تثبيت موطئ القدم الذي تريده، وأن تحقّق وقائع جديدة على الأرض، بما في ذلك تحالفات إقليمية بدأت تظهر بوادرها، لكي تجعل من الصعب على كلينتون تغييرها، ولذا فإنها ستستخدم خلال الأشهر المقبلة كل قوتها العسكرية، وقوة حلفائها على الأرض، لتحقيق ما أمكن من موطئ القدم المنشود، ما يعني أننا سنرى ارتفاعاً كبيراً في حدة المعارك الدائرة في الساحل السوري، تُستعمل فيها كل أنواع الأسلحة، حتى بعض المحرم منها. أميركا أوباما من جهتها لن تواجه الهجمة الروسية بل ستكتفي بتكثيف حربها على «داعش» لأن أقصى ما يتمناه أوباما في المدة القصيرة الباقية لعهده هو طرد «داعش» من المدن السورية والعراقية ليضيف ذلك لإرثه.

ثالثاً: بالنسبة إلى إيران، فإن إدارة كلينتون لن تكتفي بالتشدّد في تطبيق الاتفاق النووي، والتأكّد من ديمومته لما بعد المدة المحددة في الاتفاق، بل إنها ستفتح مع إيران الملفات الساخنة في المنطقة كملف العراق وسورية واليمن و«حزب الله».

سياسة هيلاري كلينتون في سورية وتجاه إيران ستجد صداها في لبنان، لكنها لن تغيّر في الاستقرار اللبناني، أقلّه في المرحلة ألأولى، لأن استقرار لبنان، سياسياً وأمنياً، سيبقى الأولوية لأميركا في عهد كلينتون، كما بالنسبة للدول الفاعلة الأخرى التي حققت للبنان الغطاء السياسي والأمني في السنين الماضية. محاربة كلينتون «حزب الله» لن تكون على المسرح اللبناني، بل على المسرح الإيراني، ولو أن سيف ديموقليس الأميركي، المتمثل بالعقوبات المالية على «حزب الله» والمتعاملين معه، سيبقى مسلطاً وحاضراً للاستعمال وقت الحاجة.

ولعل ما يريح لبنان بعض الشيء في هذا المجال هو وجود مستشارَيْن لبنانيين للشؤون الخارجية في صميم الانتخابات الأميركية، كلاهما مناضل سابق في القوات اللبنانية، بيتر ضو مستشار كلينتون ووليد فارس مستشار ترامب، أي أننا رابحون بصرف النظر عمن ينتصر في الانتخابات.

* سفير لبنان في واشنطن سابقاً