انطلقت "​المعاينة الميكانيكية​" بشكلها الحالي في الأول من شباط عام 2004، في أربع مراكز توزعت بين الحدت، الغازية، زحلة ومجدليا. يومها نجحت سيارة المرشح الرئاسي هنري حلو، ورسبت سيارة نائب حزب الله السابق عبد الله قصير. كان الفرح يعمّ المكان، ونواب لجنة الأشغال العامة والنقل الذين زاروا مركز المعاينة في بيروت يشعرون بالفخر، لا لكونهم نجحوا بفرض معايير عالمية للسلامة المرورية، بل لأنهم أوجدوا مكانا مميّزا لسرقة المواطنين، وهذا ما تبيّن خلال كل الأعوام التي تلت.

بدأت فكرة الميكانيك منتصف التسعينيات مع وزير الداخلية الأسبق ​ميشال المر​ الذي أصدر قرارا قضى باستيفاء رسوم السير والميكانيك بعد إجراء معاينة ميكانيكية بموجب محضر كشف من قبل موظفين فنيين. وعليه أصبح كل صاحب مركبة مُلزَمًا بدفع رسم السير دون إجراء معاينة في مصلحة تسجيل السيارات مما عزز الفوضى في هذا القطاع، حسبما يقول رئيس نقابة مكاتب السوق ​حسين غندور​.

بقي الحال على ما هو عليه حتى وصول المر الإبن الى وزارة الداخلية، حيث اكتشف ان الاجراء المتبع أدّى الى غياب التنظيم في أسطول المركبات في لبنان، ولكنه لم يصدر قرار إجراء المعاينة الميكانيكية في مصلحة تسجيل السيارات كما كان يفترض به أن يفعل، بل ذهبت الامور أبعد من ذلك حيث قام مجلس الوزراء بإعطاء هذا الامتياز عبر مناقصة، الى شركة سعودية خاصة "فال"، وذلك بدءا من أول شباط من العام 2004. كانت أسباب الوزير يومها ومن خلفه النواب ومجلس الوزراء الذي أصدر المرسوم رقم7577 بتاريخ 8/3/2002 (النظام الخاص لإجراء الكشف الميكانيكي على السيارات والمركبات والمقطورات)، "ازدياد أعداد حوادث السير في لبنان"، حيث يشير غندور الى ان هذه الحجّة تُستعمل لكل ما هو جديد في عالم السير في لبنان ومنه قانون السير الأخير، لافتا الانتباه الى ان أعداد الحوادث ازدادت ولم تنخفض أبدا.

ويضيف غندور: "في المرسوم الذي أطلق المعاينة الميكانيكية ورد بند مهم جدا يتحدّث عن عودة جميع المنشآت والمراكز التي أقامتها شركة "فال"، الى ملكيّة الدولة اللبنانية بعد عشر سنوات تبدأ من تاريخ شباط 2004، ولكن كانت النتيجة مخالفة لأهمّ بند في المرسوم المذكور، حيث انتهى العقد منذ عامين وبدأت رحلة التمديد لشركة "فال".

من جهته، يشير مصدر مطلع على الملفّ الى أنّ وزارة الداخلية والبلديات لم تتخذ الاجراءات اللازمة والكفيلة بتسلّمها هذا القطاع، رغم أنّها كانت قد وظفّت أشخاصا مهمتهم مراقبة العمل والأجهزة داخل منشآت المعاينة الميكانيكية لاستلامه بعد مرور السنوات العشر، وكل ذلك بسبب التدخّلات السياسيّة التي تجد لها في كل قطاعات الدولة أمكنة للتموّل، مشيرا الى ان استلام الدولة لهذا القطاع يستلزم اصدار قانون من مجلس النواب وهذا ما لم يحصل بسبب التقاعس.

وعن التدخلات السياسية في هذا الملف يذكّر المصدر بأنّه، "يوم أعلن بداية العام الجاري وزير الداخلية ​نهاد المشنوق​ أنه سيعقد مؤتمراً صحافياً يكشف فيه تفاصيل ذات صلة بفساد الميكانيك، ثم ألغي المؤتمر دون تحديد أي موعد جديد له وبقيت تفاصيل الفساد داخل الملفّ طي الكتمان"، جاء هذا الأمر نتيجة لهذه التدخّلات السياسيّة.

يؤكّد المصدر أن مخالفة القانون لم تكن فقط عبر التمديد لشركة "فال"، بل إنّ مجرّد إجراء مناقصة جديدة للميكانيك بعد انتهاء عقد "فال" هو أمر مخالف للمرسوم والقانون، ناهيك عن المخالفات الجسيمة التي رافقت المناقصة واعلان فوز شركة "SGS"، ما أدّى منذ ايام الى اعلان تعليق المناقصة من قبل القضاء. ويضيف: "كان من الممكن ان تستلم الدولة القطاع وتقوم بمناقصات جديدة لإنشاء مراكز اضافية، او بأفضل الأحوال ان تُقدم على التفاوض مع الشركتين اللتين تأهلتا لنهائي المناقصة الجديدة لاختيار الأنسب والأوفر بينهما".

بين الهدف والحوادث

في السياق نفسه، إن هدف المعاينة الميكانيكية هو التقليل من تلوّث الهواء (هو بطبيعة الحال ازداد نتيجة عوامل عديدة) والتخفيف من حوادث السير ونسب الوفيات فيها عبر رفع جودة السيارات التي تسير في الشوارع اللبنانية، ولكن اذا ما اطّلعنا على نسب الحوادث المسندة على تلك التي تبلغت بها مراكز قوى الأمن الداخلي منذ العام 2004 يوم انطلاق العمل بالمعاينة الميكانيكية حتى العام 2015 سنجد ان الاحصاءات هي كالتالي:

عام 2004 بلغ عدد الحوادث 2133 والضحايا 397، 2005 (2522-345)، 2006 (2767-378)، 2007 (4421-497)، 2008 (4470-478)، 2009 (4644-513)، 2010 (4583-549)، 2011 (4448-508)، 2012 (4804-595)، 2013 (3204-560)، 2014 (تخطت الـ 600 ضحية) وأخيرا عام 2015 بلغ عدد الضحايا 476.

ويلفت غندور النظر الى ان الاطّلاع على هذه الأرقام يؤكّد أنّ الهدف الذي نشأت لأجله عملية سلب المواطنين في المعاينة الميكانيكية لم يتحقّق ولو جزئيا. ويقول: "ان لبنان هو البلد الوحيد في العالم الذي يدفع فيه المواطن رسما للمعاينة الميكانيكيّة ورسما للسير، ورغم ذلك لا تجد الاموال طريقها نحو المكان الذي يجب ان تذهب إليه أي الى صيانة الطرقات وتحسينها مما أدّى لهذه الأعداد الضخمة من ضحايا حوادث السير سنويا".

مخالفات للقانون ومناقصات مريبة وسرقات مفضوحة. عبارات ثلاث تلخّص واقع المعاينة الميكانيكية في لبنان، فلا أعداد الحوادث إنخفضت، ولا أرقام الضحايا تدنّت ولا الطرقات تحسنّت، وجلّ ما تحقّق هو تحميل اللبناني اعباء كبيرة لتمويل جيوب المسؤولين، والأبشع من كل هذا هو ان السرقات ستستمر لعشر سنوات إضافية.