عندما قرّر "التيار الوطني الحر" مقاطعة جلسة الحكومة الأخيرة كـ"إنذار" لمجلس الوزراء، مستبقاً بذلك خطوة التمديد المتوقعة لقائد الجيش العماد جان قهوجي، لم يكن يتوقّع أن يتطوّع "حليف الحليف"، رئيس المجلس النيابي نبيه بري، ليتصدّر "المواجهة" بالوكالة والنيابة عن رئيس الحكومة تمام سلام ومن خلفه "تيار المستقبل".

رغم ذلك، صمت "العونيّون" وسعوا لاحتواء "المشكل" مع برّي، بالتنسيق مع "حزب الله"، لإدراكهم بأنّ الوصول إلى "حائط مسدود" معه لن يكون لصالحهم، هم الذين يخوضون معركة رئاسة الجمهورية، صمتٌ أتى التلويح بمقاطعة هيئة الحوار الوطني، مع ما تعنيه لبري على وجه التحديد، ليكسره في العمق، ولو جاهروا بخلاف ذلك.

الخيارات محدودة...

لا ينكر أحد أنّ "التيار الوطني الحر"، عندما أعلن عن نيّته التصعيد في وجه الحكومة على خلفية ما يصفه بـ"مسرحية" التمديد للأمين العام للمجلس الأعلى للدفاع اللواء محمد خير، والتي ستتوالى فصولها مع التمديد "شبه الحتمي" لسائر القيادات العسكرية، وفي مقدّمهم قائد الجيش العماد جان قهوجي، إنما كان يسعى للقول أنّه منسجمٌ مع موقفه "المبدئي" الرافض للتمديد بكافة أشكاله وأنواعه، وإن كان الكثيرون يردّون الأمر إلى "مشكلة شخصية" بين رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون وقهوجي، بخلفيّاتٍ "رئاسية" أولاً وأخيراً.

ولا ينكر أحد أيضاً أنّ "التيار"، عندما قرّر مقاطعة جلسة الحكومة، لم يكن يهدف لا لإسقاطها ولا لتعطيلها، وهو الذي لا يزال يعيب حتى اليوم على حزب "الكتائب" استقالته "غير المجدية" من الحكومة، وإنما أراد إحداث "صدمة" في جدار الأزمة اللبنانية الجامدة، مستفيداً من كونه المكوّن المسيحي "الوازن" الوحيد الصامد داخل الحكومة، معتقداً أنّ ذلك يعطيه حق النقض "الفيتو"، بل يفرض على الفرقاء الآخرين مراعاة خواطره وتنفيذ مطالبه.

إلا أنّ واقع الحال أنّ حسابات الحقل لم تطابق حسابات البيدر على هذا الصعيد، باعتبار أنّ مقاطعة جلسة الحكومة لم تؤتِ ثمارها، فالجلسة عُقِدت بغياب "التيار"، بل "نكايةً" به، بدليل أنّ رئيس الحكومة تمام سلام أصرّ على عقدها، وبدعمٍ علنيٍ غير مسبوق من بري، رغم "ترحيل" كلّ القضايا الخلافية عن طاولتها، فهي عُقِدت من أجل أن تُعقَد لا أكثر، حيث أنّها لم تبحث أيّ موضوعٍ طارئٍ أو مستعجل، ولم تخرج بأيّ قرارٍ استثنائي، ما يعني أنّ انعقادها وعدمه كانا سيّان، ولكنّ القيّمين عليها أرادوا توجيه رسالةٍ لـ"العونيين" مفادها أنّ غيابهم عن أيّ جلسة لا يعطّلها بالضرورة، وأنّ الميثاقية المسيحية تبقى مؤمّنة بغيابهم كما بوجودهم، وبالتالي فإنّهم، إن أرادوا اللعب، فعليهم البحث عن ملاعبَ أخرى.

انطلاقاً من ذلك، وعلى طريقة انقلاب السحر على الساحر، وجد "التيار" نفسه مُحرَجًا ومحشوراً في الزاوية، وباتت خياراته محدودة، فهو لا يريد تطيير الحكومة ولا افتعال معارك مجانيّة مع أحد من شأنها إضعاف فرص "الجنرال" في الوصول لرئاسة الجمهورية، ولكنّه في الوقت نفسه يريد حفظ ماء الوجه وعدم الظهور بمظهر الخاسر والمنهزم، وبالتالي العودة لمجلس الوزراء من دون تحقيق شيءٍ يُذكَر، لأنّ ذلك سينعكس سلبًا عليه بطبيعة الحال أمام قاعدته الشعبية.

وإذا كان الطعن بقرارات الجلسة الحكومية خطوة "شكلية" على الأغلب لا يمكن الرهان عليها، فإنّ فكرة النزول إلى الشارع وتنظيم المظاهرات والتجمّعات، رغم كونها أكثر من واردة في الأجندة "العونية"، إلا أنّها تبدو أقرب للمغامرة غير مضمونة النتائج، خصوصًا أنّ "التيار" سيخوض غمارها وحيداً، طالما أنّ الحلفاء لا يحبّذون مثل هذه الخطوة، ولا سيما منهم "حزب الله" و"​القوات اللبنانية​"، وإن كان لكلّ منهم اعتباراته وحيثياته، علمًا أنّهم يجاهرون بعدم ممانعتهم التمديد للعماد قهوجي في قيادة الجيش، وبالتالي فإنّ مثل هذه الخطوة لن يكون لها تداعيات سياسية، وستكون "نسخة طبق الأصل" عن التحرّكات التي سبق أن جرّبها "التيار" قبل عام، ولم يحصّل منها شيئاً.

"إغراء" الطاولة...

خيارات "التيار" محدودة إذاً، ولكنّها ليست معدمة، و​طاولة الحوار​ الوطني تبدو في هذا السياق أكثر من "مغرية". فهذه الطاولة، التي يهمس الكثير من "العونيين" أنّهم دخلوها عن غير قناعةٍ كاملةٍ، والتي يرعاها ويتمسّك بها "خصوم" التيّار، يمكن أن تكون "الهدف التالي" في خطّة التصعيد، وهو ما لوّح به بالفعل تكتّل "التغيير والإصلاح"، فارضًا تحديد مفهوم "الميثاقية" على رأس جدول أعمالها.

وعلى الرغم من حرص المقرّبين من "التيار" على دحض مقولة أنّ التلويح بمقاطعة الحوار مرتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بالتصعيد الذي انتهجه عرّاب الحوار رئيس المجلس النيابي نبيه بري إزاءهم في الأيام الماضية، فإنّ الخطوة لا يمكن أن تُفسَّر عمليًا، وفي هذا التوقيت بالذات، إلا في هذا المنحى، وهي انطلاقاً من ذلك تُعتبَر "رسالة مضادة" موجّهة لبري، في مقابل اندفاعته في مواجهة "التيّار".

ويقول مؤيدو هذه النظرية أنّه، إذا كان "الأستاذ" خرج بـ"فتوى" تقول أنّ الحكومة تحافظ على "ميثاقيتها" حتى لو خرج منها "التيار"، وأصرّ على ضرورة عقد جلسة مجلس الوزراء التي قاطعها "العونيون"، رغم تمنيات حليفه، أي "حزب الله"، بإرجائها، فإنّ الأمر سيكون مختلفاً في ما يتعلق بطاولة الحوار، لأنه سيصطدم بـ"فتوى" كان بري نفسه قد أطلقها عندما دشّن هيئة الحوار بعيد تحرّكات المجتمع المدني، حين قال أنّ مقاطعة أيّ مكوّن ثانٍ لها، إضافة إلى "القوات اللبنانية"، ستؤدي لنسف الطاولة عن بكرة أبيها.

وإذا كان صحيحاً أنّ مقاطعة طاولة الحوار لن تحقّق لعون مطالبه بطبيعة الحال، باعتبار أنّ هذه الطاولة لا تقدّم ولا تؤخّر شيئاً، وفق القراءة "العونية" نفسها، وإن كان دورها أساسياً في تنفيس الاحتقان الداخلي، فإنّ الأصحّ أنّ مجرّد التلويح بمقاطعتها يمكن أن يشكّل ضرباً لبري بـ"نقطة ضعفه"، هو الذي يعتبرها "إنجازاً شخصياً" يرفض التفريط به، وهو الذي يصرّ على أهمية الحوار عند كلّ استحقاقٍ ومناسبة، وآخرها في خطابه في ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر في صور، والذي لم يخلُ من الرسائل المبطنة لـ"التيار" قبل غيره.

لعبة مناكفات

هي لعبة مناكفات سياسية تتداخل مع "القلوب المليانة" إذاً. "التيار" أراد الضغط على الحكومة. بري تذكّر "حسابه القديم" مع عون، فاختار المواجهة. امتعض "العونيون". انكفأوا عن الرد المباشر لحساباتٍ معروفة، إلى أن لوّحوا بـ"نقطة ضعف" بري، طاولة الحوار، التي قد تصبح "الضحية" وسط كلّ المعمعة.

هي مجرّد عيّنة بسيطة عن كيفية إدارة الطقم السياسي اللبناني لمشاكلنا وأزماتنا، إدارة تتفوّق فيها "الشخصانيّة" على ما عداها، ليصبح السؤال عن جدوى بناء الدولة أكثر من مشروع...