في سوريا نزاع لا يشبه أياً من النزاعات المعاصرة في المحيط المجاور، وتحديداً في ​العراق​ ولبنان وفلسطين. حروب سوريا متعددة الأطراف والأهداف: صراعات محتدمة في طبقات متداخلة. طبقة اولى محورها نزاع داخلي بين الحكم والمعارضة المتعددة الاتجاهات. طبقة ثانية ركيزتها التنظيمات السلفية المسلحة بتلاوينها المختلفة، وثالثة تشمل القوى الاقليمية، أبرزها تركيا وايران، السعودية وقطر. طبقة اخرى أركانها الدول الكبرى: ​روسيا​، الاكثر حضورا ونفوذا بينما أميركا مكبّلة طوعا، وبين الاثنتين دول الاتحاد الاوروبي ومواقفها المتباينة في إطار تحالف دولي تتجاذبه التناقضات.

في عراق ما بعد صدام حسين كانت الولايات المتحدة القوة العسكرية والسياسية الطاغية، وكان لدول الجوار نفوذ مؤثر. وفي لبنان بعد 1975 حروب بالوكالة عن غيره وبالأصالة عن نفسه، انتهت بحسم عسكري واتفاق سياسي نتجت منه وصاية كاملة بغطاء إقليمي ودولي. وفلسطين أرض نزاع متواصل منذ نحو قرن، لا شبيه له بين النزاعات الاقليمية المعاصرة. الحالات الثلاث مختلفة في أطرافها وجذورها ومسارها عن حروب سوريا في عامها الخامس.

جاء النزاع في سوريا في آخر سلسلة تحولات «​الربيع العربي​» وسرعان ما جذب روسيا، بعد ايران، حليفة النظام، وتركيا، حليفة أطراف المعارضة. دولة الخلافة الداعشية شكلت انعطافة حاسمة في مسار النزاع، لم تكن في الحسبان. ضرب الإرهاب الداعشي عددا من الدول الاوروبية ودول المنطقة وأثر في مواقفها تجاه الازمة السورية. انعطافة اخرى من خارج سوريا، مصدرها الحرب اليمنية وتداعياتها الاقليمية، مضافة اليها انعطافة لا تقل شأنا بعد قرار مجلس الأمن 2118 لنزع السلاح الكيمائي من سوريا.

لروسيا في سوريا أهداف تتجاوز الأوضاع السورية والمصالح التقليدية المعروفة، وهي مرتبطة بالاشتباك الدائر في اوكرانيا بين موسكو وواشنطن والى جانبها الاتحاد الأوروبي. واشنطن مربكة في سوريا بين حرب قد تقضي على «الأخضر واليابس»، مثلما حصل في العراق، وحرب متدرّجة ترافقت مع اختبارات ميدانية فاشلة لتصنيف التنظيمات التكفيرية بين التطرف والاعتدال. تركيا بدورها راهنت على سقوط سريع للنظام، وما لبث رئيسها أن كان هدفا لانقلاب فاشل. أما ايران فلم تتأخر عن دعم حليفها الاستراتيجي بكل الوسائل المتاحة ومعها «حزب الله» المشارك على جبهات القتال.

بموازاة تطورات الميدان، انطلقت محاولات لإيجاد تسوية سياسية في جنيف وموسكو وسواهما برعاية دولية وضغوط لم تثمر، بعدما طغت الأوضاع العسكرية على مسار النزاع الدائر بكل أنواع الأسلحة.

الحرب السورية، مثلما هي حال الحروب الطويلة والمعقدة، حافلة بالمفاجآت التي غالبا ما تضع أطراف النزاع في مواقع خارجة عن إرادتها أو بعيدة عن غاياتها المباشرة. حروب الآخرين في سوريا أتاحت للنظام هامشا لاستعادة المبادرة وللصمود بالحدّ المطلوب، إلا ان للصمود أثمانا، خصوصا عندما يصبح الدعم العسكري، من أي جهة أتى، مفصليا. والمعارضة تشرذمت لأسباب تخصها وتخص غيرها، بينما التنظيمات التكفيرية المتراجعة دخلت مرحلة تصفية الحسابات والقتال الأخير.

في المرحلة الراهنة من الازمة السورية تقوم الأطراف الاقليمية والدولية بمراجعة حساباتها وتحاول أن تعزّز مواقعها لأسباب غير مرتبطة حصرا بالازمة السورية. هكذا بدا التقارب الروسي - التركي ممكنا مع ارتفاع منسوب الواقعية في المقاربة الاميركية والاوروبية للأزمة. كما ان ايران ليست بعيدة عن هذا الواقع المستجد. وما استخدام قاعدة همدان الايرانية من المقاتلات الروسية سوى تأكيد لهذا المنحى.

ولكل طرف عين على مسألة خارج الساحة السورية أو على تخومها. عين تركيا على الاكراد. وعين أميركا على روسيا. وعين روسيا على أوكرانيا. وعين السعودية على ايران والعكس صحيح. أما العيون السورية فعلى بعضها البعض، وكأنها لم تترك أمكنتها منذ اليوم الاول للنزاع. إنها حلقة متداخلة من المصالح والتناقضات وعدم الثقة وحسابات الربح والخسارة في الاتجاهات كافة.

لم تبلغ مسالك الحلول لحروب سوريا المعولمة زمن القطاف. خيارات الميدان لم تُستكمل وهي لا تزال تخضع للامتحان. الدور التركي محوري الآن، ويحظى بتأييد اقليمي ودولي، لا سيما أن تصدي أنقرة للإرهاب يصيب بطريقه الاكراد إصابات مباشرة في محاولة ميدانية «لترسيم الحدود» بين تركيا وأكراد سوريا. في المقابل، عملية خلط اوراق ناشطة وتشارك بها الاطراف جميعها على وقع جبهات القتال تمهيدا لصرفها على طاولة المفاوضات.

انها لعبة شدّ حبال متواصلة، أبطالها كثر والحل الذي قد يُفرض بعد حين لن يُرضي الأطراف جميعها وقد لا يلقى الدعم الكامل حتى من المؤيدين المفترضين.