يتصوّر المغالون في القتلوإبادة الشعوب أنهم ربّما يحقّقون أسطورة "أنكيدو" أو "غلغامش" البابلي قبل 5آلاف عام. تحالف الأوّل مع الثاني حتّى ساواه في قوّته وبطشه لينشب قتال عنيف بينهما، كما يحصل في الغالب، ليرتبطا بصداقة قويّة تحطّمت بموت "أنكيدو" المأساوي .وطاف "غلغامش" باحثاً عن أسرار الخلود بعدما أسرتهصدمة الموت وهو مدمّى من معركته مع صديقه. وظهر الأمر المقلق في النص القديم الذي كرّس الفكر الوثني في السلوك اليهودي الذي تجذّر في أرض الشرق والغرب، ليمتدّ بالقساوة الكبرى إلى المسيحية عندما تناول اليهود رمزهم ليغدو في عقائدهم الذبيحة التي بها اكتفى الرب والتي لم تعتق البشرية من الإمعان في تقديم الذبائح للتكفير عن ذنوبهم وجنونهم وخطاياهم. واستمرّ المسلمون أيضاً أصحاب كلمة الله الثالثة الأخيرة في تقديم الذبائح تنقيباً عن القيم الكبرى والغفران، مع أنّ الإسلام تجاوز الكلّ بحكمةٍ واضحة هي وهم المساواة. وبقيت مسألة العدل والإنصاف محنة الفكر والسلوك البشري الذي لم يدرك روح العدالة والإنصاف.

عندما تحصل المساواة يقوى التنافر والتغاير وقد يقود الى الإيذاء والقهر وربّما القتلوالإلغاء إن لم يلمس أحد المتساويين نعمة العدالة والإنصاف في تساويهما. هذا هو التاريخ الثابت بين حتميّة الموت واستحالة الخلود، وقلق الإنسانية في كلّ زمان ومكان وكلّها عاجزة عن مجابهة الموت.تُرى من هو "أنكيدو" ومن هو "غلغامش"؟ لا حاجة لهرش الشعر والعقل والفكر لأنّ الأسماء تتعادل وقد تتشابه في زراعة القتل لدى العابرين القلقين في أزمنة غير عابرة تمشي على مهل بل على رؤوس أصابعها الى درجةٍ مرّة تتعادل فيه الحياة بالموت لأن الوجه الآخر المظلم للحياة هو الغياب.

يصعب القفز والتنقيب في هذا المحيط الفائر بشراسة الحروب عن مشهد آخر، وكأنّ أصحاب الولائم السياسية والاقتصادية غرباً وشرقاً يحيكون بالدم والذبائح أرذل الثياب والمظاهر وأقسى الاستراتيجيات والصور عبر المجموعات "الإسلامية" المتنوعة التي يبقيها الإسلام بعظمته بين قوسين، ليظهروا (من هم هؤلاء ومن يستطع أن يرشدنا إليهم بموضوعية لا بالسياسة والنكاية ورمي التهم) الإسلام في المساحة العالمية وكأنّه الصوت القبلي المعاصر الذي يُبعث في بلادنا من جديد باسم الدين.هذا التوجّه الفكري الغربي والشرقي الغريب يسترسل في بسط وليمته الدموية المتجددة أمام عيون شعوب العالم الجائعة الى العنف المقيم كيفما تطلّعت . إنه جاذب في إغراءاته، إذ جاء مشحوناً أو مبشراً بروائح الليبرالية والعدالة وفضائل الجمهورية والحرية الفردية في العالم والديمقراطية والمصطلحات الفارغة التي لا تستطيع أن توضح للشعوب معانيها. هي مصطلحات للإنقضاض على المجتمعات،لكنّ حتّى الكتاب الذين كتبوها أو الفلاسفة أو الأنظمة التي تروّج لها بإسم الحضارة، تبدو من فصائل أنكيدو وغلغامش وقايين وهابيل.

من يفسّر لأجيالنا الفرق بين الإنصاف والعدالة عندما نتكلّم أو نبشّر بالمساواة؟

الى متى يحصر الفكر الخبيث أو يخفي الإرهاب والتخلف بالإسلام والمسلمين ويجعلهم مساحة تحريض يسهّلون عبرها سياساتهم في التحريض والتفريق والإستعداء والإستقواء والإدّعاء بأنّ ثورات تنصبّ فوق الرقعة السمراء في آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط بشكلٍ عام تطالب المسلمين بتحقيق ثوراتهم الكبرى بالقوة، تماماً كما حققت(؟) المسيحية ثورتها خلال 300 عام وبدءاً من عصور التنوير؟ يضع هذا التفكير والسلوك الإجرامي في موقع أو زاوية معادية للأفكار والحضارات والوجه المشرق من الحياة في العالم . لو أخذنا "إسرائيل" التي تشغل، منذ 1917 مروراً بال 1948 ثمّ 1967 وفصول القتل والتهجير والتفريق والتشتيت وفصول تدنيس المقدّسات وتركيع العرب والضفة وغزّة الذبيحة التي لا تنام وجنوبي لبنان والجولان وسيناء وصولاً إلى العربدة العابثة ببلادنا وبقيم الأديان وفي مختلف الأرجاء والعواصم، نجد أنّ معضلة التوتر الأساسية بين العرب والمسلمين من ناحية وبينهم وبين أمريكا والغرب من ناحية أخرى ممدودة وواضحة في ولائم ذبائح الشعوب . كان من الطبيعي والسهل أن تولّد الدماء تسهيلاً لدفع أبنائنا للتجمّع أكثر في الصرخة الى كبرياء الله والبحث عن "الفلاح" بمعنى النصر بالسيف أو بالجلد وقطع الرؤوس والتفجير والقتل بلذّة ومناظر لا يمكن تبريرها راحوا يدرجونهافي أدبياتهم تحت خانة "المسلمون الصهاينة" بعدما أدرجوامن قبلهم الفكرة نفسها تحت خانة "المسيحيون الصهاينة"وتعميمها .

ما العمل؟ تسقط الحلول الأمنية والسياسية والمحاولات المتكررة الصفراء في لقاءات "الكبار" بياقاتهم المنشّاة وإبتساماتهم الصفراء وإحتقاراتهم للدنيا من دون غطاء، وتبقى الذبائح منتشرةً في أرضنا تتبع عصف الرياح بالنار حيث لا وجهات ولا مسارب واضحة أو مرسومة. وهذا ما صار يقرّ به الكثيرون أساتذة الجامعات والمفكّرين والكتّاب لا في بلادنا الجريحة وحسب، بل في أوروبا وأمريكا والعالم بحيث يقوى النقد والرفض للسياسات المائعةوعدم التلطّيبالذهاب في الأسباب العميقة "للإرهاب" ألينا بل الى معامل السلاح وقلق الشباب في الغرب . أي عالم مرتبك، بالعجز كما بالمؤامرة، من الإبقاء على "إسرائيل" رصيداً مؤجّلاً ومخزوناً استراتيجياً، أصابعه في تذكية الحرائق والخراب العربي والإسلامي وإختلاس المستوطنات وهندسة المستقبل المرير لمن حولهم. نعم . من هناك بذر العالم التشدّد، وسقط الكلّ في دائرة متوسعة لا فرق فيها بين متشدّد وآخر، أو بين تكفيري وآخر وتنظيم وآخر إلاّ بطرائق الموت والتفنّن فيها لا لإرهاب الحاضر بل للقبض على المستقبل عندما نرى أجيالنا من بشرٍ مختلف. الوعد بالجنّة مسألة فائقة الدلالة في وجدان كلّ مؤمن ومن أيّ دين كان والإيمانية بالنسبة لبعض الشباب المقاتل في تنظيمات المسلمين والذي يؤرّق، في الظاهر، الدول العظمى في انفلات غير محسوب أمام مسأله التعادل بين الموت الإستشهادي والفلاح، أساسه نبذ الحاضر والهروب نحو لذّة الموت بالموت.حسابات الأرض غير حسابات الفضاء: هذه معادلة عرفها لبنان ومعهم الفلسطينيون بما لا يكتب في مقال. ماذا يفعل الرضيع تحت طائرة تقصف؟والطيار من فوق يلتهم "البيغ ماك" ويقاتل الشعوب ويحاول ترويضها من الفضاء، ومن خلف الشاشات والنصوص والحسابات التي لا تفضي وتزرع سوى العبثية والهزائم والخراب والأحقاد التي تساوي الموت بالحياة، فتتحوّل الى نمط من اللذّةالتي تُدسّ فيالأرحام والأجنّة والمخيلات والأحلام إلى ما شاء التاريخ .... هذا قدر تعُثر الفكر البشري في فهم العدالة والإنصاف عندما ينبس بالمساواة.