كيف تحول الأكراد إلى مرمى للنيران المتقابلة، والمتصارعة، والمتغامزة اليوم لتجعلهم عقدة التجاذب والتصالح بين الدول العظمى، لا الإقليمية كما عبر التاريخ؟

وكيف ينهار حلمهم التاريخي المتكرر في إقامة دولة هي ممكنة التحقيق في وجدانهم، لكنها مستعصية فوق تلك الجغرافيا الوعرة، والمتشظية والمشتعلة، منذ أن بدأ التاريخ؟ كيف يتحول الشتات الخاص بالمجموعات الإثنية، بالمفهوم الجيوسياسي، إلى تاريخ حافل بالهزائم؟

قد يتخذ السؤال مداه الواسع بالعودة لمعركة مرج دابق (1516) المتكررة بعد 500 سنة، بحملة عسكرية تركية على مدينة جرابلس بمحافظة حلب شمالي سوريا حكمتها الصدفة، أو عكسها، بهدف تطهير المنطقة من «داعش»، ثم بالعودة إلى جالديران (1517) وسايكس/بيكو وما تلاها من محطات تاريخية، مثل سيفر، ولوزان، والتقلب بين التغريب والتعريب، أو التفريس والتتريك.

كيف استمر الأكراد متأرجحين بين سلاطين عثمان والشاهانات الفارسية، بالرغم من ارتقاء بعض زعمائهم، إلى الحظوة بلقب الملوك، ناظمي حدود بين الفرس والأتراك والسوريين والعراقيين، ولم يكن يقربهم من التوحيد سوى الإسلام؟

أهو العدد، بمعنى الكم، أم الثقافة واللغة والعادات والتقاليد والفولكلور، أو الجروح والتحديات التاريخية هي العناصر التي تولد هذا الاندفاع في الصعود والهبوط لدى الأقليات، أو كلها معاً؟

طبعاً، لست، لأجيب عن الأسئلة التي أصوغها لطالب يحضر أطروحة دكتوراه، لكن تلميحاً يمكن ملاحظة:

1- ما يسهل تحقيقه في لندن، أو في واشنطن، أو موسكو، وعواصم العالم يبدو تحقيقه عسيراً، أو مكلفاً جداً للأطراف المتدخلة، على الرغم من اندفاعة الأتراك والإيرانيين، وجيوش العالم وتحالفاتهم المعلنة والسرية والمعقدة منذ غزو العراق، نحو العراق وسوريا والبلاد العربية كلها.

2- انزلق الأكراد في ما أسميته «مثلث غير متساوي الأضلاع» في مقال نشر في 9/12/2012، في هذه الصفحة، لكن ما يحصل، وسيحصل بعد اندفاعة أردوغان نحو إيران، وانصياعه لروسيا، وعبسته المحيرة بوجه أمريكا المتهمة بدفع غولين إلى الانقلاب الفاشل عليه، ومناكفة ألمانيا وأوروبا مجتمعة، تدفع إلى الأخطر بعدما تفاهمت الأضلاع. يتقلب أردوغان بين مطالبته بغولين، وخوفه من أن يراه في بلد قريب لتركيا مشاركاً في رسم مستقبل تركيا كنسخة مشابهة لتجربة إيران 1979، أو في تحول دولته كرة في ملعب يتسع بين روسيا وأمريكا، بانتظار خطوط التوازن الدولي المنتظر.

3- لنبدأ من سوريا عددياً، حيث أكثرية الأكراد في القامشلي والحسكة وعين العرب ومنطقة جرابلس. هناك حضور لهم قرب مدينة عفرين بمحافظة حلب، مقابل إصلاحية وكيريكان التركيتان، كذلك هم في حي الأكراد في دمشق المعروف بحي ركن الدين. وللأكراد المنزلة الرابعة في التصنيف السكاني في الشرق الأوسط، حيث تتألف الأكثرية من العرب والإيرانيين والأتراك. هم أكبر مجموعة إثنية في العالم وتتجاوز أعدادهم 35 مليوناً تقريباً، يتوزعون بين تركيا (50%) إيران (25 %) العراق (16%) سوريا (4%)، أذربيجان وأرمينيا وجورجيا وآسيا الوسطى (1%)، أوروبا (3%)، لبنان (1%). ويشكل الأكراد نسبة 21% من سكان تركيا، و20% من سكان العراق، و9% من سكان سوريا، و7% من سكان إيران، حيث يقدر العدد الإجمالي للمجموعات الكردية في الدول الأربع ما بين 30 إلى 35 مليون نسمة، منهم مليون ونصف مليون كردي موزعين بين مختلف دول العالم. يعيش في تركيا وحدها عشرة أضعاف الأكراد في سوريا، ولهذا دلائل تساعد على قراءة المستقبل.

4- جغرافياً، يقيم هؤلاء الأكراد في قرى معلقة تتلاصق فيها البيوت، وتعلو فوق بعضها بعضاً مشابهة البيوت القديمة في جبل لبنان، المنطقة التي سميت عبر التاريخ مقبرة العثمانيين. ولم تكن كردستان سوى خط متعرج ومتقلب على مر العصور، جعل الأكراد يختلطون بالأرمن جنوباً، حيث تضاعفت أعدادهم بفضل السياسيات التركية التي كانت تشجع هجراتهم، في أعقاب المذابح الأرمينية الأربع (1895 1909، 1919 1916). واختلطوا بالأتراك في مناطق ديار بكر وماردين، كما بالعرب والتركمان والأتراك أيضاً، في أعالي بلاد ما بين النهرين. أما في إيران، فبلاد الأكراد ذات حدود طبيعية عند بحيرة رومية جنوباً حتى كرمنشاه. ومع أن الجغرافية قد تم تطويعها، فإن الالتفات إلى تلك المسالك الجبلية، تفصح بسهولة ما كانت تصبو إليه الحركة الكردية أساساً، وهو التخلص من صفة «الأقلية» والمطالبة الدائمة بقيام دولة كردية، أو استقلال ذاتي.

5- ثقافياً ولغوياً، يتكلم الأكراد اللغات الهندو أوروبية القريبة من الإيرانية، وهم لا يعرفون غير لغاتهم المتفرعة إلى لهجات أهمها «الكورمانجي»، و«السوراني». تنتشر الأولى في تركيا وسوريا وتكتب بالحرف اللاتيني كما في القوقاز، وتكتب بالحرف «الكيريلي». أما اللهجة الثانية فتنتشر في العراق وإيران وتكتب بالحرف العربي. وهناك لهجات عدة أخرى، محدودة الانتشار أهمها «زازي».

إن مسألة الإشارة إلى وجود لهجتين كرديتين، وثلاث أبجديات لكتابتها، قضية تشغل مفكري الأكراد ومثقفيهم، بهدف توحيد لسانهم، وهو عنصر أساسي في تحديد مستقبلهم.

ولم يتعلم الأكراد من عذاب قرن كامل. هم أسرى النقاط الخمس التي ستبقي الخلافات بينهم أقوى بكثير من خطوط التوحد، فضلاً عن الفجوات التي تفصل بينهم وبين العرب والأتراك والإيرانيين. وبالرغم من حكم ذاتي في شمالي العراق، فإنهم يقفون فوق عتبة الاستحالة في تقرير مصيرهم.