خلال الحرب الباردة وبعدها، كما في النزاع الدائر منذ العام 2011، شكّلت سوريا حالة خاصة في العلاقات الدولية. في زمن الحرب الباردة حافظت سوريا على علاقات وثيقة مع الاتحاد السوفياتي منذ خمسينيات القرن الماضي واستطاعت أن توطد علاقاتها مع الولايات المتحدة بعد حرب 1973 الى أقصى حدود الممكن. فكّ الارتباط العسكري برعاية أميركية على الجبهة السورية ـ الاسرائيلية في 1974 ساهم في تمتين العلاقة مع واشنطن بحدود لم تصل الى انهاء النزاع مع اسرائيل، خلافا لما حصل بين مصر واسرائيل من تقارب فتح الباب لمفاوضات انتجت اتفاقية كمب ديفيد.

على المستوى الإقليمي، أقامت سوريا علاقات مميزة مع السعودية وعلاقات أكثر تميّزاً مع إيران. ولم يحلْ ذلك دون مشاركة سوريا في التحالف الدولي والإقليمي لإنهاء الاحتلال العراقي للكويت.

في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، لم تتبدل أوضاع المنطقة وموازين القوى فيها. في التسعينيات كانت دمشق صاحبة النفوذ الأكبر في لبنان بدعم إقليمي ودولي. شاركت سوريا في المفاوضات العربية ـ الإسرائيلية التي انطلقت في 1991 وظل المسار السوري ـ الاسرائيلي متعثّراً حتى مطلع العام 1994، أي بعد اتفاق أوسلو.

التقارب بين انقرة ودمشق، بعد توتر غير مسبوق في العلاقات الثنائية، ادى الى اخراج الزعيم الكردي عبد الله أوجلان من سوريا (اعتقل لاحقاً من السلطات التركية)، ورعت انقرة بين العامين 2007-2008 مفاوضات غير مباشرة بين سوريا واسرائيل لم تفضِ الى أي نتيجة، في الوقت الضائع بعد توّقف المفاوضات العربية - الإسرائيلية.

ظلت العلاقات الروسية ـ السورية على حالها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. الا أن التحول المفصلي طاول العلاقات السورية ـ الأميركية بعد الغزو الأميركي للعراق في 2003، وتراجعت العلاقات بين الطرفين الى ادنى مستوياتها. انعكست هذه الأوضاع توتراً شديداً في لبنان بعد قرار مجلس الأمن 1559 الداعي الى انسحاب الجيش السوري ولاحقاً اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وجاءت الانتفاضة الشعبية الواسعة في 2005 لتنهي حقبة الوجود السوري في لبنان والغطاء الدولي والإقليمي الذي واكبه.

تطورات المرحلة الراهنة منذ العام 2011 لم تنته الى اليوم. احداث «الربيع العربي» بدّلت موازين القوى داخل عدد من دول المنطقة وفي ما بينها، وكانت سوريا الساحة الأكثر أهمية و «جهوزية»، بعد العراق، للنزاعات الإقليمية المدوّلة.

حروب سوريا قلبت الأوضاع رأسا على عقب. استعادت موسكو موقعها المؤثر في سوريا بزخم غير مسبوق منذ تفكك الاتحاد السوفياتي، دعما للنظام وعلى خلفية النزاع مع واشنطن والاتحاد الأوروبي في اوكرانيا. راهنت تركيا على انتصار حلفائها في المعارضة السورية، لا سيما الاخوان المسلمين، وانقطعت العلاقات السورية ـ السعودية والخليجية عموما. في المقابل وضعت ايران امكاناتها لدعم النظام بكافة الوسائل المتاحة. ذهبت روسيا بعيدا في العمل العسكري، بينما تعاملت واشنطن مع الازمة بتردّد وبحذر شديد واكتفت بإنجاز اخراج السلاح الكيميائي من سوريا. دول الاتحاد الأوروبي، لا سيما فرنسا، عادت وتعاملت بواقعية مع الأزمة بعدما تلقت ضربات موجعة من إرهاب داعش.

ومن خارج سياق الدول والجماعات المتنازعة، أطلّت دولة لا شبيه لها بين الدول: دولة الخلافة الداعشية التي حكمت باسم الدين وهي تحتكر تفسيره. وعلى رغم ارتباطاتها «السماوية» فهي بحاجة الى جغرافيا وحدود سرعان ما سيطر عليها داعش بقوة السلاح. والمفارقة ان هذه الدولة، التي لا يعترف بها أحد وهي على طريق الزوال، ساهمت بتدويل الازمة السورية وفي تفاقم النزاع في المنطقة ومع العالم.

تقارب الضرورة يتمدّد، وهو قائم بين الاطراف المعنية بالأزمة السورية، وآخر تجلياته التحول في الموقف التركي. مسار النزاع حالياً محوره الصدام بين تركيا والأكراد. انضمت تركيا الى حملة التصدي للتنظيمات التكفيرية، بعدما كانت ابرز داعميها، مقابل «جائزة ترضية» تمثلت بضرب الأكراد برضى او عدم اعتراض اطراف النزاع.

إعادة التموضع الجديد ليست بلا أثمان، لاسيما بعدما توسّع اطارها ليشمل التقارب الروسي ـ التركي، التنسيق بين موسكو وطهران، الموقف الاميركي المختلف من الاكراد، والموقف التركي من النظام السوري لجهة عدم الاعتراض على دوره في المرحلة الانتقالية. انها مؤشرات، سلبية كانت ام ايجابية، لاطلاق المرحلة الانتقالية، على رغم الغموض المتزايد بالنسبة الى مضامين «الحل النهائي» وشروطه. «مفاوضات» الميدان متواصلة على غير جبهة. فبعد داعش ومثيلاته يعود النزاع الى دول يحكمها بشر ويغيب الشريك "الإلهي" ...مرحلياً.