بين الحين والآخر تعود نغمة "المؤتمر التأسيسي" إلى الواجهة، علمًا أنّه في حال الفشل في الخروج من الأزمة السياسيّة الحالية، فإنّ فرص عقد المؤتمر المذكور سترتفع بشكل كبير، حتى لو جرت جلسات الحوار أو الإجتماعات تحت إسم مُغاير، كما إقترح النائب طلال أرسلان من باب التهكّم. لكنّ اللجوء إلى خيار "المُؤتمر التأسيسي" في ظلّ المُعادلات الحالية سيعود بنتائج كارثيّة على المسيحيّين، للأسباب التالية:
أوّلاً: إنّ القوى المسيحيّة غير مُوحّدة الصفوف والإنقسام يشمل التناقض في الموقف السياسي والمنافسة الحزبيّة وتلك القائمة بين الأحزاب والشخصيّات التقليديّة والإقطاعيّة، ما يعني أنّ كلمة المسيحيّين ستكون ضعيفة في المُؤتمر المذكور، في مُقابل كلمة قويّة للمُسلمين حيث أنّ الكتل المذهبية الشيعيّة والسنّية والدرزيّة مُتوافقة على الدفاع عن مذهبها بغض النظر عن تموضعها السياسي. فالشخصيّات الدرزيّة كلّها مُتوافقة مثلاً على ضرورة أن تحصل على منصب تمثيليّ وازن في السلطة مثل رئاسة مجلس الشيوخ مثلاً، والشخصيّات السنّية كلّها مُتوافقة مثلاً على رفض التنازل عن أيّ من المكاسب أو السلطات التي إستحصلت عليها بفعل "إتفاق الطائف"، والشخصيّات الشيعيّة مُتوافقة مثلاً على الإستمرار في تقديم مصلحتها العليا بشكل كامل وتام على أيّ مصلحة أخرى، بعد أن تمكّنت في السنوات القليلة الماضية وبفضل هذه السياسة، من تجيير الكثير من المناصب التي لم تكن عُرفًا من حصتها، لصالح شخصيّات شيعيّة، مثل منصب المدير العام للأمن العام، ومنصب رئيس الجامعة اللبنانيّة، إلخ.
ثانيًا: حزب "القوات اللبنانيّة مثلاً يرفض أيّ "مُؤتمر تأسيسي" في هذه الظروف، إنطلاقًا من أنّ التوازنات الداخليّة الحاليّة والمُعادلات الإقليميّة والدَوليّة الراهنة، ستُؤدّي إلى مزيد من الخسائر للمسيحيّين، لجهة التراجع من وضعيّة المُناصفة، ولوّ النظريّة وغير المُطبّقة على أرض الواقع، إلا وضعيّة المُثالثة الفعليّة والدستوريّة الثابتة. من جهة أخرى، لا يُعارض "التيار الوطني الحُرّ" اللجوء إلى خيار "المؤتمر التأسيسي" أو ما شابه، في حال بقاء الفشل السياسي الراهن، إنطلاقًا من إقتناعه بأنّ هكذا مُؤتمر سيُؤدّي إلى إعادة بعض السُلطات المسلوبة إلى رئيس الجمهوريّة من دون المسّ بسُلطات باقي الطوائف والمذاهب، وإلى حل الوضع السياسي المُقفل. إلى ذلك، يُراهن حزب "الكتائب اللبنانيّة"، إنطلاقًا من أحلام يقظة كانت تُراود مُؤسّسي "حركة لبناننا"، على أنّ من شأن التوجه إلى "مؤتمر سياسي" أن يعيد كتابة الصيغة اللبنانيّة بشكل عصري ومُتطوّر، بعيدًا عن صيغة العام 1943 الهشّة والمُتوارثة بأسلوب المُراوغة والتكاذب من جيل إلى جيل.
ثالثًا: التموضع المسيحي السياسي في السنوات السابقة، سيضعهم حُكمًا في مُواجهة بعضهم البعض على طاولة أيّ "مُؤتمر تأسيسي"، حيث أنّ تصويب "التيار الوطني الحُرّ" مثلاً هو على سُلطات رئيس الجمهورية التي لا يُمكن أن تعود إلى جزء من سابق عهدها، إلا على حساب تراجع سُلطات رئيس الحكومة السنّي من جديد، بينما يرفض حزب "القوات اللبنانيّة" حصر الخلاف بين المسيحيّين والسنّة، خاصة وأنّه يعتبر أنّ ضعف المسيحيّين وسيطرة المُسلمين على السلطة السياسيّة عُمومًا، ناجم من خلل في موازين القوى نتيجة إنتشار سلاح "حزب الله" وفرضه "دُويلة" داخل الدولة، وبفعل إستمرار إمتلاك غيره من القوى الإسلاميّة مخازن من الأسلحة، وليس مُجرّد أسلحة فرديّة في منازل مُؤيّديها، كما هي حال المسيحيّين. وحزب "الكتائب اللبنانيّة" يرغب بالتمايز عبر إقتراحات تتجاوز مسألة اللامركزية وتلامس حدود الفدرالية، علمًا أنّ هذه الطروحات هي خارج زمانها بالنسبة إلى قُدرة المسيحيّين على تطبيقها. والكثير من القوى المسيحيّة المُصنّفة "مُستقلّة" تدين بالولاء لتيّار المُستقبل، وهي ستكون أوّل المُدافعين عنه لإعتبارات إنتخابيّة. حتى أنّ البطريرك الماروني مار بشاره بطرس الراعي يرفض التوجّه إلى "مُؤتمر تأسيسي"، إنطلاقًا من مبدأ التمسّك بالصيغ القائمة حاليًا، والتي لم تأت من العدم بل بعد عُقود من الصراعات الداخليّة وبعد حرب لبنانية دمويّة.
رابعًا: لا شكّ أنّ الوصول إلى مرحلة "المُؤتمر التأسيسي" يعني تلقائيًا البحث في إقتراحات لتعديل الدُستور، جزئيًا أو كليًا، مع ما يعنيه هذا الأمر من إنعكاس مُباشر لموازين القوى الداخليّة ولحجم التدخّلات الإقليميّة والدَوليّة ولأهميّتها. وليس سرًّا أنّ المسيحيّين ليسوا بموقع قوّة لفرض مطالبهم، لا من حيث الغطاء الإقليمي والدَولي المتوفّر لهم، بعكس الدعم الإيراني للشيعة والدعم السعودي للسنّة، ولا من حيث العدد في ظلّ هوّة كبيرة في حجم الولادات التي تُعطي المُسلمين أغلبيّة مُتصاعدة على حساب المسيحيّين، ولا من حيث النفوذ السياسي والهيبة العسكريّة، حيث أنّ المسيحيّين مُشرذمين سياسيّا وهم كان قد جُرّدوا من سلاحهم باستثناء بعض الأسلحة الفرديّة، في مُقابل توافق إسلامي على مصالح مذاهبهم، ووجود ترسانة من الأسلحة تعطي الشيعة الهيبة المطلوبة على أيّ طاولة تفاوض، ووجود الإستعداد لحمل السلاح وحتى على الشغب المُسلّح تُعطي السنة موقعًا لا يُمكن تجاهله، ووجود تعصّب مذهبي فوق كل إعتبار لا يُسقط الدروز من حسابات أي طرف.
في الختام، ما لم تجلس الشخصيّات المسيحيّة كلّها من دون إستثناء، وتتفق على رؤية مُوحّدة للخطوط العريضة التي يجب على المسيحيّين التمسّك بها خلال أيّ مؤتمر حواري عام للقوى اللبنانيّة في المُستقبل، إنطلاقًا من معايير تُقدم مصلحة الطائفة المسيحيّة العليا وليس إنطلاقًا من حاسابات ومصالح شخصيّة وإنتخابيّة ورئاسيّة ضيّقة، فإنّ المسيحيّين كلّهم سيسقطون ضحيّة أيّ "مُؤتمر تأسيسي" بدون أدنى شكّ. ومن يعتقد عكس ذلك، إنّما يُراهن على سراب...