زيارة رئيس الأركان الروسي فاليري غيراسيموف لتركيا حلقة جديدة في مسار التقارب بين البلدين بعد الإنفراج الذي بدأ بلقاء سانت بترسبرغ بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين، وأنهى أزمة ديبلوماسية حادة تفجرت عقب إسقاط تركيا للمقاتلة الروسية في تشرين الثاني 2015 قرب الحدود السورية.المصادر العسكرية في البلدين ترى أنّ نتائج لقاء رئيس الأركان التركي الجنرال خلوصي اكار بضيفه الروسي جاءت «مثمرة وبنّاءة» وأنّ ملفات الزيارة التي كانت مقرَّرة في 26 آب الماضي وتمّ تأجيلها الى هذا الاسبوع تركزت على الوضع الرّاهن وآفاق تسوية الأزمة في سوريا والتّعاون العسكريّ الثّنائي، لكنّ الحقيقة الواجب عدم إغفالها هي أنّ زيارة غراسيموف لتركيا ستكون لها آثارها الكبيرة، خصوصاً أنها تأتي عقب عملية «درع الفرات» التي تدعمها تركيا في شمال سوريا، والمواقف التركية الأخيرة التي تتحدث عن احتمالات التمدد العسكري التركي نحو الرقة والموصل لمحاربة تنظيم «داعش» هناك، خصوصاً إذا ما تذكرنا أنّ خلوصي اكار نفسه هو الذي كان يتحدث قبل عام تقريباً عن ضرورة التنسيق التركي ـ الروسي في الحرب ضد «داعش».

موسكو تريد أن تقول إنها ستلتزم بمتطلبات الصداقة التركية ـ الروسية الجديدة لكنّ الحقيقة هي أنّ القمة الرباعية لوزراء خارجية روسيا وتركيا وايران واذربيجان في آب المنصرم، والاندفاع التركي نحو روسيا بين المؤشرات التي تعكس الرغبة التركية السبّاقة في التحوّل الانفتاحي في اتجاه الكرملين أكثر فأكثر.

رسمياً، أنقرة وموسكو تتحدثان عن الاتفاق على تعزيز التعاون العسكري بين البلدين في سوريا، والاتراك يقولون إنهم أطلعوا ضيفهم الروسي خصم الامس على تفاصيل عملية «درع الفرات»، لكن ما هو غير معلن أن تتحرّك القوات التركية الروسية في إطار عمليات قتالية مشتركة ضد تنظيم «داعش» بعد نجاح خطط التنسيق وتبادل المعلومات حول مواقع التنظيم. النقطة العالقة حتى الآن كانت الخروج بتفاهم تركي ـ روسي في توصيفات التنظيمات الأخرى التي تقاتل في سوريا وعلى رأسها «جبهة النصرة» و»فتح الشام»، فهل ينجح الضابط الروسي في مهمته هذه ليفتح الطريق امام أوّل تعاون عسكري من نوعه بين البلدين منذ سنوات الحرب الباردة في المنطقة؟

خيط رفيع وحساس يفصل بين احتمالات التعاون العسكري التركي في الحرب على التنظيمات الإرهابية بعد التفاهم على اللائحة المشتركة التي لن تغفل حجم التباعد في أماكن أُخرى حيث تدعم روسيا الرئيس بشار الأسد، بينما تساند أنقرة المعارضة السورية التي تشكو دائماً من استهدافها عسكرياً بواسطة المقاتلات الروسية.

أيّ تنسيق حقيقي قد يفتح ثغرة جديدة في مسار الأزمة السورية بشقيها العسكري والسياسي وقد يكون حلقة في التفاهم بين البلدين على اطلاق المرحلة الانتقالية التي يدور الحديث عنها من دون أن تبدأ ساعة الصفر فيها. تبقى نقطة اساسية عالقة في ملفات المحادثات التركية ـ الروسية وهي قضية حلب ومستقبلها وسبل التفاهم حول خريطة حلّ عسكري سياسي يحمي اتفاق الهدنة المعلن ويعزّز فرص التعاون، خصوصاً وأنّ أردوغان نفسه تحدّث في مطلع الشهر الجاري عن احتمالات التنسيق الثنائي في موضوع حلب.

الإقتناع التركي باستحالة الرهان على موقف أميركي ـ أوروبي داعم لتركيا في المواجهة مع روسيا إبّان الازمة الاخيرة واحتمال تجيير واشنطن التوتر التركي ـ الروسي لمصلحتها حتى ولو كان ذلك يتعارض مع الشراكة ومبدأ الصداقة، هو الذي فتح الابواب على وسعها أمام الضيف الروسي هذه المرة.

هدف أنقرة الأول هو الخروج من موقع الجلوس بين المطرقة الروسية والسندان الأميركي وهذا ما يحدث. رسالة موسكو التي تقول إن لا حلّ في سوريا لا تتبنّاه وتعتمده هي، تلقّفها الأتراك ويتعاملون على هذا الأساس معها.

مقابل ذلك يبدو أنّ موسكو اليوم اكثر اندفاعاً وحماسة من واشنطن لمناقشة مشروع «المنطقة الآمنة» في شمال سوريا حلم الأتراك الأول.

في صلب التحوّل في الموقف التركي حيال روسيا، ربما شعورها بوجود فكرة «المؤامرة الغربية» ضدها بهدف تعطيل أيّ مشروع تقارب استراتيجي مع موسكو في منطقتي البحر الأسود وشرق المتوسط حيث مشاريع الطاقة العملاقة الجديدة وتفرّد واشنطن بغنائم وصولها الى سواحل البحر الاسود حيث تركت تركيا بمفردها تواجه غضب الدب الروسي هناك.

تركيا تريد، على ما يبدو أيضاً، أن تنجح هذه المرة في إقناع موسكو بأهمية تحسين علاقاتها معها في منطقة البحر الأسود عبر تقاسم النفوذ واشتراكها في مشاريع بحر قزوين وخطط إمدادات الطاقة نحو أوروبا الغربية وتحسين علاقاتها مع المنظومات الإقليمية التي بنتها روسيا هناك.