لم تهدأ العاصفة التي خلّفتها الضربة العسكرية الأميركية (قيل بعدها ان التحالف الدولي هو الذي نفذها واعترفت بريطانيا بالمشاركة فيها) على مواقع للجيش السوري في ​دير الزور​ وأدّت الى مقتل 62 جندياً سورياً. وخلّفت الضربة كما بات معلوماً، اضراراً سياسية ودبلوماسية أكثر بكثير من الأضرار الميدانية والعسكرية التي تسببت بها، أولها الإتهامات بين روسيا والولايات المتحدة حول التسبّب بانهيار الهدنة التي كان توصل وزيرا الخارجية الاميركي جون كيري والروسي ​سيرغي لافروف​ الى اتفاق بشأنها في 12 من الشهر الجاري.

سيناريوهات كثيرة اطلقت من قبل متابعين ومحلّلين حول الاسباب الحقيقية الكامنة وراء هذه الخطوة، وفيما أتى الموقف الأميركي الرسمي ليبرّر الموضوع على انه "خطأ غير مقصود"، اتخذت المسألة منحى آخر بعد التصريح القوي الذي صدر عن رئيس هيئة الاركان العسكرية في الجيش الاميركي الجنرال ​جوزف دانفورد​ والذي دعا الى التدقيق والتحقيق حول ما اذا كان هناك بالفعل "خطأ" ارتكب في دير الزور(1).

هذا الكلام لا يمكن عدم التوقف عنده لأنه يحمل دلالات كبيرة، اولها انه يشير الى عدم قبول الجيش الاميركي إدانته بارتكاب أخطاء، فهو سيؤذي سمعته طبعاً وسيؤدّي الى المزيد من الحذر من جانب الحلفاء قبل الأعداء، خصوصاً وان حوادث كثيرة حصلت في مختلف دول العالم (العراق، افغانستان...) أظهرت ان اخطاء كثيرة تسبّبت بها الضربات الاميركية واوقعت خسائر بشرية في صفوف مدنيين.

أما الأمر الثاني والذي يكتسب أهمية أكبر، فيشير الى إمكان امتعاض وزارة الدفاع "​البنتاغون​" من الاتفاق الاميركي-الروسي الذي توصلت إليه ​الخارجية الأميركية​، والقيام بمثل هذه الضربة قد يكون مدروساً وبمثابة "تمرّد" من قبل الوزارة العسكرية على الوزارة الدبلوماسية.

من المنطقي ان يعتبر البعض هذا الإحتمال غير وارد، ولكن من غير الطبيعي نفيه بالكامل، فالخلافات بين الإدارة الأميركية التابعة للرئيس الحالي باراك اوباما ووزارة الدفاع ليست بجديدة، وشابها الكثير من التوتر، اضافة الى أنّ "الفورة" الروسية السياسية والعسكرية التي حصلت أدت الى بروز "قلق" من جانب الجيش الأميركي الذي ينظر بعين الريبة الى الجيش الروسي وقدراته.

واللافت في هذه الخطوة، أنّها خالية من أي خطر على الجنود الأميركيين وجنود قوات التحالف، لأنّ روسيا لن تعمد، في حال تبيّن أنّ الأمر ليس عن طريق الخطأ، الى استهداف الأميركيين حتماً، و​الجيش السوري​ لا يملك الإمكانات الكافية للقيام بمثل هذه الخطوة اصلاً، فالضربة الأميركية ألحقت خسائر في صفوف الجيش السوري وليس الروسي، والتبعات كانت سياسيّة ودبلوماسيّة وليست عسكريّة.

وإذا لم يكن الأمر خطأ، فإن البنتاغون يكون قد نجح بالفعل في إحراج الخارجيّة الأميركيّة أمام روسيا والعالم، ولا حاجة للتذكير بردّ الفعل الروسي الدبلوماسي العنيف على هذه الضربة إن في الامم المتحدة او خارجها.

قد لا يثبت بشكل ملموس وفعلي ان يكون "البنتاغون" تمرّد بالفعل على الدبلوماسيّة الأميركيّة، ولا شكّ أنّ الضربة التي تعرّضت لها القوافل الإنسانيّة الدوليّة قرب حلب قد تشكّل طوق نجاة للخارجيّة الاميركيّة التي استعادت المبادرة وانتقلت من موقع الدفاع الى موقع الهجوم، ولكن السؤال سيبقى حول قدرة الإدارة الاميركيّة في ترميم الصدع الذي شهدته العلاقة مع روسيا في وقت قصير، وعلى ابواب انتخابات رئاسية في الولايات المتحدة اتُّهمت روسيا بالتدخل فيها وتأييد المرشح الجمهوري دونالد ترامب على حساب المرشّحة الديمقراطيّة هيلاري كلينتون...

وسيبقى التصريح الذي أدلى به الجنرال دانفورد عالقاً في الأذهان، وسيكون مادة دائمة للتذكير بأن "خطأ" ما قد يكون حصل، إنما داخل "البيت الأميركي" وليس خارجه.

(1)بتاريخ 20/9/2016 قال الجنرال جوزف دانفورد في دردشة مع صحافيين: "ربما يجب علينا قبل أن نسلك طريق البحث عما حصل عن طريق الخطأ، أن نقوم بتحقيقات ونتأكد انه تم بالفعل ارتكاب خطأ". واضاف: "ربما عندما نجري التحقيقات، فإن الوقائع قد تفيد بأننا قد نقوم بما قمنا به مجدداً".