أحاول في هذه المقالة أن أشرك صانعي القرار العربي وأساتذة الجامعات بظاهرة هائلة الخطورة تجتاح أجيالنا الشابّة، وخصوصاً أولئك الذين يتقدّمون بأطاريحهم لنيل شهادات الدراسات العليا من ماستر ودكتوراه والذين سيبسطون أفكارهم وقناعاتهم السريعة غير الممحّصة بعد عقد أو أكثر على مستقبل التعليم العالي وصورته غير المنهجية في دنيا العرب. وهذا يعني ضرورة الوعي للكوارث التي تنتظر مستقبل العرب العلمي والبحثي والإجتماعي والسياسي فوق الخارطة الكونية في التفكير والتدبير والوعي لأهميّة تحصين الأجيالوالمجتمعات.

يمكن تعريف هذه الظاهرة بفتون باحثينا الذي لا يصدّق وإنبهارهم بالأدوات والأشكال والكشوفات التي تستبدّ بعقولهم بصرف النظر عن المضامين والخلاصات والعبر التي يصلون إليها. فعلاً لا يمكن تصديق ظاهرة تدفّق الباحثين العرب الناشئين على دراسة "ثورات الربيع العربي" أو الحراك الإحتجاجي بوسائل الإعلام التفاعلي مثل فايسبوك وتويتر وغيرها ومدى تأثيراتها كلّها على الجمهور العربي والإسلامي منذ تونس حتّى اليوم.

أوّلاً، يجب القول أنّني ومع نشوب "ثورة الياسمين" في تونس، كان الهمّ والحذر محصوراً في نقاش مفاهيم السلطة العربيّة التي لا يمكن أن تكون مستوردة. السلطة ليست موضة نرتديها ونرميها وفقاً لحركات المقصّ أو المطبخ السياسي الخارجي. وبهذا المعنى، كان الهمّ منصبّاً على جعل كلّ ما عصف وسيعصف في دول العرب محصوراً بين قوسين تدليلاً على غربته أو عدم الإعتراف به حتّى تفكيكه وتعريته لتبيان الأهداف والإستراتيجيات والنتائج.

ثانيا، لم نترك حراكاً إحتجاجياً أو ثورة أو مظاهرة إلاّ ودرسناها وعرّيناها من قشورها المستوردة بنقدٍ ديكارتي عقلاني وشواهد ونقاشات مستفيضة، ومع ذلك بقي باحثونا الصغار منخرطين بأقصى حماستهم بأنّ التويتر أو الفايسبوك هو الذي يؤطّر المجتمعات والرافضين والباحثين عن التغيير.

ثالثاً، لا يمكن تصوّر الهجمة إن لم نقل التخمة التي يعاني منها المعهد العالي للدكتوراه في لبنان بالطلاّب العرب من العراق وسوريا والبحرين وليبيا وغيرها ومعظمهم على قناعة ويقين بأنّ وسائل التواصل الإجتماعي تحديداً هي التي تساعد على تغيير المجتمعات. وكي أعطي مثالاً حسيّاً على ما نحن فيه، ناقشنا مؤخّراً طالبة عربية تقدّمت لنيل شهادة الدكتوراه التي بلغت 650 صفحة بحثاً عن دور التويتر في التغيير الذي لم يحتل سوى 19 صفحة فقط من الأطروحة.

رابعاً، لا يمكن للأبحاث الحالية أن تؤطّر ما يحصل من فوضى على مستوى العرب العام أي لا يمكن حصر التعقيدات والتشابكات الحاصلة بين العرب والعالم اليوم في أطر منهجية حيال عالم متحرّك متغيّر يبدو وكأنّه ملعباً لكرة الأقدام الكثيرة التي تعدو على غير هدى في الملعب العربي الواسع من الدول العظمى الى الدول الإقليمية الى الدول العدوّة. كيف يكون التويتر أو غيره موقد التغيير؟ هذا هراء، لأننا محكومون بمجموعة محدّدة متكررة من النظريات في بحوث الإتصال والإعلام حافلة بالإشكاليات ومحكومون ب"ثقافة الصدفة" والنقل والنسخ والتبعثر والتكرار في سرد النظريات والأفكار وأسئلة الأبحاث ومنهجياتها المتشابهة الغامضة المستوردة. الأقسام النظرية أو نصف الأطاريح محكوم بالتراكم في حقول علوم الإجتماع والتاريخ ونصفها الآخر في المسح ونظرية التأطير وجداول الدراسات العينية ورسومها التي تبدو وكأنها منفصلة عمّا سبقها تماماً ؟ يستبدّ بطلابنا وبنا مسألة معقّدة هي الآرقام والنسب والتوصيات التي لا تعني ولا تقدّم الكثير.

قد لا ننتبه أننا في عالمٍ تسقط فيه الأطر نجد في عواصم الغرب ومعارضه، مثلاً، لوحات فنيّة تخرج فيها الصور والألوان من فوق الأطر الضيّقة، فتصبح اللوحة عالماً واسعاً لمنظر أو لمشهد لا يمكن تحديده وتأطيره وضبطه.

وقد نجد أحدهم ينشر صورة سخيفة في التويتر أو على صفحته في الفايسبوك فلا يستطيع أن يتابع الأعداد الهائلة للمعجبين والمعجبات متوهّماً بأنّ ما نشره هو دليل قوّة وحضور له أو لصورته في الرأي العام. وبالمقابل، نجد أحدهم قد نشر كلمات قليلة مضمّخة بالحكم والعبر والدروس وتبقى يتيمة لا تعني أحداً من المارين أو العابرين فوق الجدار. قد تنهمر عليك نقرات المعجبين والمحبين قبل أن تنشر نصّاً دسماً. وقد لا تنهي جملة لك على التويتر حتى يتدفق أمامك شلالات من التعليقات السريعة المتناقضة المشاعية في المضامين والمقاصد والمناهج. أين هو التفاعل هنا إذن؟ نحن أمام أدوات ومستوردات إستهلاكية نسفت النظم العقلية وتساوق التفكير ومناهج الأبحاث ومسار المجتمعات من أسسها.

كيف يمكن قياس التأثّر والتأثير في مجتمعٍ مجدّد عبر نقرة السبابات والتجمّع والتظاهر في الساحات؟ وهل نصدّق أنفسنا بعد، وبخفّة عقل ونظر، أن ما حصل ويحصل هو نتيجة لألعاب التواصل الإجتماعي التي تولّد أكثر من برنامج وأداة في كلّ عام فتتنافس الدول والشركات الضخمة العملاقة في مابينها، وتجعلنا نصدّق أنها دروب للتغيير؟

لو تأمّلنا مليّاً في ما لدينا حول التويتر "جاذب العصر" لتذكّرنا موضوعياً العبارة القائلة :" كلّما إتّسعت الرؤيا ضاقت العبارة"، أو إنتبهنا ونحن نقرأ في كتاب الله أنّ كلّ آية بحدّ ذاتها تستأهل موضوع بحث لماستر أو دكتوراه إذا كان التويتر بزقزقته وتغريداته التي تلعثم عصافير الأرض، لا يسمح لنابنشر أكثر من مئة وأربعين حرفاً فوق مساحة التغيير والتفاعل الوهمية.

هذه بضاعتنا ردّت إلينا وفي غفلةٍ من الكثيرين منّا.

وبعد. يبدو التويتر خلافاً للفايسبوك حيّزاًللنخب.

ماذا تعني النخب؟ من هي النخبة في وطنٍ عربي ما؟ ما تأثيرها إن كانت ميداناً سريعاً للّمح التي يكتسحها المسؤولون في العالم من رئيس أميركا الى روسيا وفرنسا كي لا نعدّ دول العالم وسفرائه ووزرائه ونوابه وأساتذة جامعاته الحاليين والسابقين؟ ما يعنينا هو العودة الى مجتمعاتنا لا الى الأدوات اليومية الحديثة التي تكبّ أمامنا بهدف المزيد من الفوضى والتشتّت وتفريغ الزمان والوقوع في أفخاخ الإستهلاك ونهب الثروات والعقول. وهل تصدّق العامّة من الناس أن هؤلاء النخب هم أصدقاء الشعوب ويتقفّون خطى حقوق الإنسان في الأرض؟

هي ليست أكثر من مقاربة أو دعوة للنظر في أنفسنا بالمرآة، تعيد تجديد الذهن العربي على التفكير والبحث الإبداعي، ولربّما تحفّز كبار العرب الى التفكير بالمستقبل، بإستراتيجيات وأفكار وورش هادئة لا تعادي الغرب ولا ترتمي في أحضانه وتفتن بما يقدّم، ولربّما تنقذ أجيالها كما تنقذ العالم المجنون ثقافياً وتواصلياً من عصورالفوضى. فالعالم نظام وهندسة دقيقة تتجاوز العقول لا يمكن تعبئته بالألعابوالأفكار والنظريات التي لا هويات لها بهدف التغيير. لن يخرج من تحت الأصابع حضارات تنقذ البشرية ومجتمعاتها من التجويف والتسطيح.