مفاجئاً بدا لكثيرين إعلان "التيار الوطني الحر" عن تحرّكٍ شعبيٍ في الشارع سيقوم به يوم الأحد المقبل، بعد أيامٍ من "فرملة" الاندفاعة "العونية" بفعل "المبادرة" التي قيل أنّها تقرّب رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون أكثر وأكثر من قصر بعبدا.

ومفاجئاً أكثر بدا الخطاب العالي السقف الذي أطلقه رئيس "التيار الوطني الحر" وزير الخارجية ​جبران باسيل​، والذي أعلن فيه "التمرّد" على من اعتادوا "الزحف" نحو قصر بعبدا، في وقتٍ يُتَّهَم فيه "التيار" أصلاً بتقديم "التنازلات" التي لا تُعَدّ ولا تُحصى في سبيل الوصول إلى كرسيّ الرئاسة.

فهل من دلالاتٍ لكلّ ذلك في "البازار" الرئاسي؟ وهل بالفعل "جُمّدت" المبادرة "المستقبلية" تجاه عون؟ ولماذا لم يُعلَن عنها بشكلٍ رسمي وواضح حتى الساعة؟

المبادرة مستمرّة...

يوم عاد رئيس "تيار المستقبل" ​سعد الحريري​ إلى بيروت، محرّكاً الملف الرئاسي بوتيرة متسارعة وغير مسبوقة، بعد أشهرٍ طويلة من الجمود "المُمِلّ"، اعتقد البعض أنّ إنجاز الاستحقاق الرئاسي بات مسألة ساعات، أو أيام في الحدّ الأقصى، وذهب البعض لحدّ "التنجيم" بالموعد الذي سيحطّ فيه العماد ميشال عون في قصر بعبدا. وما إن أنهى الحريري جولته الداخلية حتى بدأت "العقبات" تظهر رويداً رويدًا. في الداخل، تطوّع بعض "حلفاء" عون لتظهير عدم وجود "إجماع" على انتخابه رئيسًا، وتلهّى البعض الآخر بمناقشة بنود ما اصطُلِح على تسميتها بـ"السلة"، التي يجب أن تسبق الانتخاب، والتي كان عرّابها رئيس المجلس النيابي نبيه بري.

وبعيدًا عن هذه العقبات التي يدرك القاصي والداني أنها "تنتفي" بمجرّد وصول "الضوء الأخضر" الخارجي، الذي لن يتردّد أيّ فريقٍ داخلي، مهما كبر أو صغر حجمه، بالالتزام به وفقاً للعادات اللبنانية المتوارثة، بدأت العقبات الخارجية بالبروز شيئاً فشيئاً، خصوصًا أنّ انتخاب الرئيس يتطلب توافقاً سعودياً إيرانياً يبدو من سابع المستحيلات في هذه المرحلة المتشنّجة، علمًا أنّ علامات استفهامٍ كثيرة طُرِحت عن جولة الحريري الخارجية، التي لم يظهر منها سوى زيارة "خاطفة" إلى روسيا التقى خلالها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، ولم يحصد منها ما كان يبتغيه.

رغم كلّ ذلك، يصرّ قياديو "المستقبل" و"التيار" على الجزم بأنّ مبادرة الحريري لم "تُجمَّد"، وإنما قد تكون "فُرمِلت" بسبب بعض "العقبات" الخارجية قبل الداخلية، باعتبار أنّ "الضوء الأصفر" الذي حصل عليه الحريري من السعودية، وإن لم يكن "أحمر"، لا يخوّله التقدّم أكثر إلى الأمام. وإذا كان "المستقبليّون" يشدّدون على أنّ الحريري لم يعلن أصلاً أيّ موقفٍ، وهو لا يزال يدرس الخيارات المُتاحة أمامه، ويضع كلاً منها في ميزان الإيجابيّات والسلبيّات، فإنّ "العونيّين" يؤكّدون في المقابل أنّ "التفاهم" أنجِز، وأنّ الحريري مُنِح بعض الوقت لمهمّة "الإخراج"، لا أكثر ولا أقلّ.

رسائل مشفّرة...

ولكن، إذا كانت المبادرة "الحريرية" لا تزال سارية المفعول فعلاً، فما "مغزى" التحرك "العوني" في الشارع؟ وهل يعتقد "العونيون" أنّهم، بهذه الطريقة، يسهّلون مهمّة الحريري أم "يعرقلونها"؟

يقول "العونيّون" أنّ العِبَر تبقى في الخواتيم، فمجرّد تنظيم تحرّكٍ ما لا يعني شيئاً، وإنما "الرسائل" التي يحملها التحرّك بين طيّاته هي "بيت القصيد"، وهي التي تحدّد المسار الذي ستذهب إليه الأمور، سواء لجهة التصعيد أو غيره. وعلى الرغم من أنّ الفترة الفاصلة عن موعد التظاهرة كفيلة بتغيير الكثير من المعطيات، فإنّ العنوان "المبدئي" للمظاهرة بات واضحًا: هي ليست لرفع العتب ولا لإطلاق رصاصة الرحمة على المبادرة الحريرية، بل لتوجيه "الرسائل المشفّرة" لكلّ من يعنيه الأمر.

هكذا، يسعى "التيار" للقول أنّ تجاوبه مع المساعي الإيجابية التي بُذِلت في الأيام الأخيرة ليس "تنازلاً"، فهو لا يعني أنّه سيغضّ الطرف مطوّلاً عن التجاوزات التي حصلت، والتي كان ينوي إعلان "الانتفاضة" عليها، وما نزوله إلى الشارع سوى "رسالة واضحة" بهذا الاتجاه. وإذا كان "التيار" يحرص على عدم تمرير ​ذكرى 13 تشرين​، مع ما تعنيه لقواعده وقياداته، مرور الكرام، فإنّه يريد "استثمارها" أيضاً للتأكيد على الحضور "العوني" الذي لم ولن ينضب، وللقول أنّ "الجنرال" لا يزال "الزعيم" الأكثر حضوراً على الساحة المسيحية، شاء من شاء وأبى من أبى.

فتّش عن الطائف...

لا شكّ أنّ الكثير من الاتهامات التي وُجّهت لـ"التيار الوطني الحر" واقعية، باعتبار أنّ "التيار" تخلى عن كلّ وعوده في سبيل "الكرسي"، وهو ما شكّل أكثر من "زحفٍ نحو بعبدا"، كما يقول خصوم "التيار"، الذين يعيّرونه بـ"الإبراء" الذي لم يعد "مستحيلاً"، ويستغربون الخطاب "الملائكي" الذي خرج به العماد عون في حديثه التلفزيوني الأخير، فضلاً عن "رسائل الودّ" التي وجّهها ليس فقط بغضّه النظر عن كلّ الرزنامة التصعيدية، بل بالعودة إلى الحكومة من دون تحقيق ولو مكسبٍ واحد، من الشروط التي كان قد وضعها.

إلا أنّ هذه الانتقادات لا تلقى "آذاناً صاغية" في الصفّ "العوني"، إذ يبدو أنّ "التيار" أكثر من مرتاح هذه الأيام رغم كلّ الغيوم "الملبّدة"، باعتبار أنّ "المعادلة" تغيّرت رأساً على عقب. هم يتذكّرون في هذا السياق كيف أنّ "المستقبليّين" حين كانوا يُسأَلون عن سبب "الفيتو" الذي كانوا يضعونه على ترشيح العماد ميشال عون، رغم موافقتهم على ترشيح "حليفه" رئيس تيار "المردة" النائب سليمان فرنجية، كانت "كلمة السرّ" الموحّدة لإجابتهم هي: اتفاق الطائف.

ففي المنظور "المستقبليّ"، صحيح أنّ عون وفرنجية "متساويان" في درجة الخصومة، إلا أنّ الاعتقاد السائد، والذي عزّزته الكثير من التصريحات "النارية" خصوصًا لعون، أنّ "الطائف" سيصبح في "خبر كان" بمجرّد انتخاب "الجنرال" رئيساً، في حين أنّ "بيك زغرتا" قادر على "ضمان" عدم المسّ به. هذا الأمر تغيّر اليوم، يقول "العونيّون، إذ إنّ "اتفاق الطائف" بقي "كلمة السرّ" التي تتحكّم بخيارات "المستقبل" الرئاسية، إلا أنّ مصيره أصبح بيد عون، الذي أصبح "الضامن" الوحيد له...

تعزيز للفرص؟

يعتقد "التيار الوطني الحر" إذاً أنّ البورصة الرئاسية تصبّ لصالحه أكثر من أيّ وقتٍ مضى. لا الخلاف على التفاصيل مع رئيس المجلس النيابي نبيه بري يؤثر سلبًا عليه ولا فرملة اندفاعة رئيس تيار المستقبل سعد الحريري، ولا حتى الجو الإقليمي المشحون والمتوتر بين السعودية وإيران.

أما تظاهرة الأحد المقبل، فيرى أنّها يفترض أن تعزّز "رصيده" الرئاسي لا العكس، "فرضية" تبقى خاضعة للأخذ والردّ، حتى تبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود...