«بالروح بالدم نفديك يا بوتين» هي اليافطة التي لم يَرفعها الأتراك على المدخل الرئيسي لقاعة المؤتمرات المخصّصة لقمّة الطاقة العالمية الـ 23 التي انعقدَت في اسطنبول، لكنّ أجواء الحفاوة والاستقبال، والاهتمام الشخصي الذي أظهرَه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضيف الشرف، وجدول الأعمال الموسّع في المحادثات الثنائية والعقود والاتفاقات الاستراتيجية الموقّعة أو التي تنتظر التوقيع، تقول إنّ شعبية بوتين ستتضاعف بين الأتراك، وهو الذي أثبتَ لهم أنّه الصديق الحقيقي بالمقارنة مع الحليف المفترض أميركا.كلّ شيء كان يجري أمام أعين الجميع، والكاميرات والعدسات كانت تنقل المشهد لحظة بلحظة:

في 25 تشرين الثاني من العام الماضي كان بوتين يهدد تركيا ويتوعّدها بعد حادثة إسقاط المقاتلة الروسية التي اخترقت الأجواء التركية، مؤكّداً «إسقاط الطائرة هو الجنون بعينه، إنّ الظرف غير مسبوق، والتحدي الذي وضِعت أمامه روسيا لا سابقة له، ولذلك فمِن الطبيعي أن يأتي الرد متوافقاً مع حجم التهديد». وردّ أردوغان يومها «إن كان هناك مَن عليهم الاعتذار فهو ليس نحن. مَن انتهك مجالنا الجوّي هي الطائرة الروسية».

ظهر العاشر من تشرين الأوّل الجاري في اسطنبول مرّة أخرى أمام مئات الحضور والتاريخ الذي يسجّل:

إمتلأت قاعة المؤتمرات الرئيسية بمئات المشاركين من 85 دولة، واكتملَ استقبال الوفود وأخذُهم أماكنَهم استعداداً للاحتفال الرسمي، فيطلّ الرئيس التركي صاحب الدعوة يرافقه الرئيس الروسي ضيف الشرف الاوّل على أعمال القمّة، فيقف الحاضرون مصَفّقين مرَحّبين من دون معرفة السبب الرئيسي، هل هو احترام للرَجلين؟

أم الحماس والتأثّر بالمشهد تقديراً لموقع الدولتين ودورهما الإقليمي، أم هي رغبة تَسود وتقول إنّ هذا التقارب قد يشكّل الفرصة الجديدة لتحريك كثير من الملفّات نحو الحَلحلة في المنطقة، وهي رسالة تلقَّفها بوتين وأردوغان ولن يفرَطا بها.

قبل أشهر كنّا نتساءل عن الساعة صفر في المواجهات العسكرية بين البلدين، أمّا اليوم فنحن نتحدّث عن التحوّل الكبير في مسار العلاقات التي وصَلت إلى مستوى التنسيق العسكري الاستراتيجي وصفقة الصواريخ البعيدة المدى التي تريد أنقرة ابتياعَها من روسيا.

العرض الروسي لبناء منظومة الدرع الصاروخية للجيش التركي يَعني أكثرَ مِن الاستدارة التركية والانعطافة الروسيّة لِما يحمله من أبعاد إستراتيجية مهمّة. تركيا لم تعبَأ كثيراً بما سيقوله الحِلف الأطلسي حول هذه الصفقة على ما يبدو.

ما هي أبرز رسائل هذا التقارب التركي ـ الروسي الجديد؟ وأين وكيف سيبدأ؟ وفي أيّ اتّجاه سيتقدّم؟ وهل سيبقى محصوراً بتطوير العلاقات الثنائية؟ أم سيتحوّل تنسيقاً ثنائياً في ملفّات إقليمية ودولية شائكة من الممكن تقديم الخدمات المتبادلة في شأنها؟

قبل أن يقول بوتين «إنّ روسيا لن تنسى إسقاط طائرتها وقتلَ الطيّار، وإنّ تركيا ستَندم على فعلتها، ولن تفلتَ من العقوبات»، كان البلدان يتّجهان نحو الشراكة الاستراتيجية في مجال الطاقة بمشروع محطة الطاقة النووية وخط أنابيب الغاز بعقودٍ تتجاوز قيمتُها 50 مليار دولار، وصادرات الخضروات والفواكه التركية الى روسيا، وأنشطة رجال الأعمال الأتراك هناك، يرافقها تدفّق مئات الآلاف من السيّاح الروس إلى تركيا.

مشروع «السيل التركي وحده يَعني 63 مليار متر مكعب من الغاز الروسي إلى أوروبا عبر تركيا سنوياً، وكلّها قاسمُها المشترك هو مليارات الدولارات في العلاقات بين البلدين. يبدو أنّ الأرقام هي التي لعبَت دوراً أساسياً في إعادة القيادات إلى هدوئها وعقلانيتها.

أزمة إسقاط المقاتلة الروسيّة لم تدم طويلاً، لأنّه وببساطة ثبتَ بعد جردة حسابات الربح والخسارة أنّ المصالح الحيوية المشتركة هي التي حسَمت الموقف وتغلّبت على العناد الشخصي والتعنّت القومي في صفوف الأتراك والروس، تركيا وروسيا تختلفان حول نظام الرئيس بشّار الأسد، لكنّهما متّفقتان على ضرورة حماية وحدة الأراضي السورية، وعلى معارضة إقامة دولة كردية في شمال سوريا، إلّا أنّ الرئيس الروسي كان أوّل مَن يتّصل بأردوغان بعد محاولة الانقلاب الفاشل في تركيا. ولهذا أيضاً اختار أردوغان بوتين ليكونَ ضيفَ الشرف الأوّل على أعمال مؤتمر الطاقة العالمي بنسخته الـ 23 في اسطنبول.

الموقع الجيواستراتيجي المميّز لتركيا يعطيها اليوم فرصةً فريدة لنقلِ الغاز الإسرائيلي والقبرصي والروسي والإيراني والأذري والعراقي إلى أوروبا. وفجأةً ينتشر خبر أنّ تركيا تنتظر من روسيا عرضاً في ما يخص نظام الدفاع الجوّي البعيد المدى، بعد أن كانت قد خططت لابتياع منظومة صواريخها الجديدة من الصين، ونَعلم أنّ بوتين أبدى جاهزية بلاده للتعاون في مجال النظام الدفاعي المشترك.

بوتين قبل وصوله إلى اسطنبول كان يعطي أوامر باستخدام «الفيتو» الروسي لتعطيل مشروع قرار فرنسي ـ اسباني حول حلب وإدخال المساعدات إليها انتقاماً من تعطيل الخطوة الروسية هناك التي لم تحصل على الدعم المطلوب. قبل وصوله أيضاً كان أنجَز توقيع تفاهمٍ جديد مع دمشق يطلِق يدَ روسيا عسكرياً وأمنياً بنحوٍ أوسع على الأراضي السورية.

قبل قدومه كان يقول إنّ واشنطن تتكلم فقط، وهي بسبب عجزها عن اتّخاذ القرار تعرقل التحرّكات الروسية والإقليمية الأخرى. تركيا كانت في انتظار عروض روسيّة سياسية اقتصادية استراتيجية، لذلك هي ربّما تجنّبَت التعليق على كلّ هذه الخطوات الروسية؟

ما قيل حول أنّ معركة مدينة «الباب» هي هدف الحسابات الروسية ـ السورية المشتركة، كان خارجَ النقاش التركي ـ الروسي، والدليلُ هو تسريع العمليات العسكرية التركية على جبهة «دابق» وجوارها للاقتراب أكثر فأكثر من «الباب» تمهيداً لتفاهم تركي ـ روسي مشترك حول عملية الرقّة التي قد تفاجئنا بإخراج واشنطن من الخطة ردّاً على «التحية» الأميركية لأنقرة في معركة الموصل، وإلّا فلا معنى إطلاقاً لكلام وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو الذي قال إنّ على بلاده وروسيا التفكير معاً والعمل على إيجاد حلول لإنهاء مشكلات مشتركة لأزمات المنطقة ولا سيّما منها الأزمة السورية.

في صلب التحوّل في الموقف التركي حيال موسكو، ربّما هناك اقتناع تركي جديد باستحالة الرهان على موقف أميركي ـ أوروبي داعم في المواجهة مع روسيا. تركيا أزعَجتها وأقلقَتها سيناريوهات المحافل الغربية التي دعمت التوتّر التركي ـ الروسي وشجّعت عليه بدلاً من الدخول على خط التهدئة.

مواجهات تركية ـ روسية تعني للغرب فرصة إضعاف البلدين، وإخراجهما من لعبة التوازنات الإقليمية والدولية في منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً بعد التفاهم الغربي النووي مع إيران.

ربّما هذا هو الذي حدا برئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم للرد بأنّ «انشغالَ الإدارة الأميركية بالانتخابات الرئاسية المنتظرة، انعكسَ سلباً على الأوضاع القائمة في منطقة الشرق الأوسط»، غامزاً من قناة أنّ ذلك أعطى موسكو وأنقرة فرصة إنجاز المصالحة والتطبيع.

لكن هناك حقيقة أخرى، وهي أنّ الجهد الذي تبذله روسيا لجذبِ تركيا نحوها لا يعني بالضرورة أنّها تريد إبعادها عن الغرب، بل على العكس من ذلك، أن تستفيد من موقع تركيا ودورها داخل المنظومة الغربية أكثر.

والنموذج البريطاني داخل هذه المنظومة في علاقاته المميّزة مع الولايات المتحدة الاميركية من الممكن تطبيقه على العلاقات التركية ـ الروسية، وربّما بات اقتناعاً بدأ يترسّخ في البلدين من الممكن تفعيله والاستفادة استراتيجياً منه.

في تغريدة له أوجَز برهان كوزو أحدُ قياديي حزب «العدالة والتنمية» التركي زيارةَ بوتين إلى تركيا ونتائجها بالآتي: المقاتلة الروسية أسقطتها جماعة فتح الله غولن بمعرفة الولايات المتحدة الاميركية.

الحكومة التركية التي وصَلت الى هذه النتيجة سارَعت الى المصالحة والتطبيع مع روسيا وتوقيع العشرات من العقود والاتفاقات الاستراتيجية. 3 لقاءات و4 إتّصالات هاتفية بين أردوغان وبوتين خلال شهرين هل هي ردّ على غولن وجماعته؟ أم على واشنطن وسياساتها؟

عنوان الزيارة قد يكون المضيّ في عملية تطبيع العلاقات وإعادتها إلى ما كانت عليه قبل عام، لكنّ العنوان الحقيقي قد يكون رسائل تركية ـ روسية حول انطلاق تعاون استراتيجي للعمل على حلّ إقليمي لعدد من أزمات المنطقة.

أردوغان لم يكن في استقبال بوتين لحظة وصوله إلى المطار، لكنّه كان في وداعه حتى ركوبه سيارتَه في طريق العودة. كيف كانت ردّة فعل الرئيس الاميركي باراك اوباما وهو يتابع هذه المشاهد من بعيد؟ ألم يكن من حقّه هو أن يحظى بكلّ هذا الاهتمام والترحيب كشريك وحليف استراتيجي لأنقرة؟ أم هو سيكتفي بجائزة نوبل التي حصَل عليها باكراً جداً؟