ما بعد انتخاب رئيس الجمهورية هو حتماً ليس كما قبله، فمِن اليوم تبدأ مرحلة سياسية جديدة مختلفة شكلاً ومضموناً عمّا سبقتها، ويفترض أن تشهد تحضيرَ لبنان لملاقاة التسويات الإقليمية المرتقبة التي يعتقد البعض أنّ إنجاز الاستحقاق الرئاسي اللبناني هو أبرز معالمها أو عناوينها، خصوصاً بعدما تحدّث البعض عن أنّ هذا الإنجاز لم يكن «صنِع في لبنان» فقط، وإنّما واكبَه، أو رعاه، مناخٌ أو توافق إقليمي ـ دولي معيّن، بدليل الحشد الديبلوماسي الذي واكبَ انتخاب الرئيس.

يَعتقد كثيرٌ من السياسيين أنّ ما احتواه «خطاب القسَم» لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون معطوفاً على خطاب رئيس مجلس النواب نبيه بري يصلحان لأن يكونا خريطة طريق، بل فحوى البيان او البرنامج الوزاري لحكومة العهد الأولى التي يفترض ان تكون حكومة وحدة وطنية جامعة كلّ المكونات، ويأمل الجميع أن لا يتأخّر تأليفها، حتى لا تدخل البلاد في شغور حكومي بعد خروجها من الشغور الرئاسي.

فخطاب بري يشكل في رأي هؤلاء السياسيين خريطة طريق للعهد الجديد تقوم على سياسة اليد الممدودة «لإعلاء لبنان»، وهو في ما احتواه جاء متقاطعاً في غالبيته مع مضمون «خطاب القسم» حول مجمل القضايا الوطنية وسبلِ معالجتها، ما يؤسّس لتعاون بين السلطات مستقبلاً يقضي به الدستور والواقع وكذلك مصلحة البلاد المهددة بمخاطر كثيرة داخلياً على مختلف المستويات.

فخطاب القسم الذي جاء مباشراً خالياً من الإنشاء، يمكن البناء عليه لصوغ بيان وزاري، خصوصاً انّ البعض يفترض ان تكون عناوينه نتاجَ توافق ما بين عون والرئيس سعد الحريري الذي رشّحه في ختام حوارات ونقاشات دارت بينهما منذ ايار الماضي في موازاة ترشيحه زعيم تيار المردة النائب سليمان فرنجية.

وإذا صحّ هذا الافتراض فإنّ خطاب القسم مرفوداً بخطاب بري سيكون فحوى البيان الوزاري للحكومة الجديدة، بحيث لا يحتاج صوغ هذا البيان الى كثير من النقاش للتوافق عليه، فلا احد يعارض سيادة الاستقرار السياسي في البلاد عبر «احترام الميثاق والدستور والقوانين من خلال الشراكة الوطنية التي هي جوهر نظامنا وفرادة كياننا»، حسب ما ورد في الخطاب.

وكذلك لا احد يعترض على «تنفيذ وثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف) بلا انتقائية استنسابية واجتزاء». فالجميع في فريقي 8 و14 آذار، (إذا كان ما زالا موجودين) ينادون باستكمال تنفيذ «الطائف» بكل ما يتضمنه وينتقدون طريقة تنفيذ بعض بنوده.

ولعلّ أبرز ما في خطاب القسم انّ عون قطعَ تعهّداً بإقرار قانون انتخاب جديد قبل الانتخابات النيابية المقررة في ايار المقبل حيث تنتهي ولاية المجلس الممددة. ويمكن توقع ان يكون منطلق هذا القانون ما كان متوافقاً عليه بري و«التيار الوطني الحر» من قانون يعتمد لبنان دائرة انتخابية واحدة او المحافظات دوائر كبرى على اساس النظام النسبي، علماً انّ هذا التعهد الرئاسي يقطع الطريق امام رغبة البعض بـ«تمديد تقني» لسَنة للمجلس او إجراء الانتخابات على اساس «قانون الستين» النافذ الذي اعلنَ الذين أيّدوه وتمّ استحضاره من العام 1960 تلبيةً لرغبتهم رفضَهم له بعدما اكتشفوا «مرارته».

والقانون الذي نادى به عون هو قانون «يؤمّن عدالة التمثيل»، وهذه العدالة لا تتحقق إلّا باعتماد النظام النسبي الذي من شأنه أن يؤمّن ايضاً شمولية التمثيل لكلّ مكوّنات الشعب اللبناني السياسية والطائفية والمذهبية في مجلس النواب، وهذا ما ينادي به «اتفاق الطائف» الذي جاءت كلّ القوانين الانتخابية التي أقِرّت بعد إقراره مخالفة له، وأفظع المخالفات كانت العودة الى قانون الستين.

على انّ بري نادى بالتفاهم على قانون عصري للانتخابات يعتمد النسبية، مشدداً على «الكوتا» النسائية ومشاركة الشباب في الاقتراع» ومعتبراً «أنّ العبور من الطائفية الى الدولة ومن دون إلحاق الضرر بالطوائف لا يمرّ إلّا عبر هذا القانون».

أمّا في موضوع علاقة لبنان بمحيطه والذي «لا يزال في منأى عن النيران المشتعلة حوله في المنطقة»، فإنّ عون خطّ عناوينَ لسياسة خارجية تقود على «ضرورة ابتعاد» لبنان عن النزاعات الخارجية عبر احترام ميثاق جامعة الدول العربية، وخصوصاً المادة الثامنة منه الآتي نصّها:

«تحترم كلّ دولة من الدول المشتركة في الجامعة نظام الحكم القائم في دول الجامعة الاخرى، وتعتبره حقاً مِن حقوق تلك الدول، وتتعهّد بأن لا تقوم بعمل يرمي الى تغيير ذلك النظام فيها».

على ان يقترن الالتزام بهذه المادة بـ«سياسة خارجية مستقلة تقوم على مصلحة لبنان العليا واحترام القانون الدولي حفظاً على الوطن واحة سلام واستقرار وتلاقٍ».

على انّ المقاومة كان لها حيّز مهمّ، حيث نادى عون بها في مجال النزاع مع إسرائيل عندما تحدّث عن «أنّنا لن نألوَ جهداً ولن نوفّر مقاومة في سبيل تحرير ما تبَقّى من ارضٍ لبنانية محتلة وحماية وطننا من عدوّ لَمّا يزَل يطمع بأرضنا ومياهنا وثرواتنا الطبيعية».

وفي الموازاة شدّد خطاب القسم على مكافحة الارهاب استباقياً وردعياً وتصدّياً حتى القضاء عليه. مع تشديد على معالجة مسألة النزوح السوري بالتعاون مع الامم المتحدة، بحيث لا يمكن ان يحصل حلّ للأزمة السورية «لا يَضمن ولا يبدأ بعودة النازحين». وإلى ذلك، استمرار الجهد لتثبيت حق العودة للّاجئين الفلسطينيين وتنفيذه.

على انّ خطاب القسم وخطاب رئيس المجلس تلاقيَا ايضاً على وجوب النهوض بالبلاد اقتصادياً ومالياً ومعيشياً واجتماعياً وتربوياً وإدارياً، والاستفادة القصوى من الاغتراب اللبناني «ولا ننسَ أنّنا في لبنان حوالي أربعة ملايين، بينما في الخارج فإنّنا أكثر من 14 مليون» على حدّ قول بري.

فيما احتوى خطاب عون برنامجاً اقتصادياً واجتماعياً وتربوياً يمكن ان تستنير الحكومة الجديدة به لتحقيق «إصلاحٍ اقتصادي يقوم على التخطيط والتنسيق بين الوزارات» وعلى «خطة اقتصادية شاملة مبنية على خطط قطاعية» و«استثمار الموارد الطبيعية في مشاريعَ منتجة تؤسّس لتكبير حجم اقتصاد حر»، وكذلك إطلاق «نهضة اقتصادية تغيّر اتجاه المسار الانحداري».