تجهد تركيا من خلال تدخُّلها العسكري المباشر في سورية لفرض وجودها كلاعب أساسي فيها يصعب تجاوزه في أية تسوية للأزمة السورية، آخذة بعين الاعتبار حدودها المشتركة مع سورية، ووجود الأكراد هناك، ومخاطر مشروع الدولة الكردية، التي ستشكّل خطراً على تركية، وهي ما تزال في معركة مفتوحة مع حزب العمال الكردستاني، الذي يعمل للاستقلال عن تركيا.

بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، تم أخذ كل الأراضي غير التركية منها، وتقسيم "بلاد الشام" إلى العراق وسورية والأردن، بموجب معاهدة سيفر 1920، التي أعطت الأكراد حقوقهم بدولة مستقلة، والتي عادت وألغتها معاهدة لوزان عام 1923، بعد اتفاقهم مع مصطفى كمال اتاتورك على أن تركيا هي للشعبين التركي والكردي، والذي وعدهم بإعطائهم حقوقهم بعد استقرار الوضع في تركيا، وهو الوعد الذي لم يفِ به أتاتورك.

أما أكراد سورية فلم تأتِ المعاهدات على ذكرهم في تلك الفترة، لأنهم كانوا قلة، وكانوا جزءاً من مكوّنات سورية بعد "بلاد الشام"، وتوزّعوا على مناطق عدة في القامشلي والحسكة، وعامودا والقحطانية، والمالكية، وعين العرب، وعفرين (جبل الأكراد) شمال حلب، ومدينة دمشق (حي الأكراد)، وبعض المدن الأخرى.

حاول أكراد سورية بعد تهميش النظام لهم وحرمان قسم منهم من الجنسية، الاستفادة من الأزمة السورية، والسعي إلى الفيدرالية؛ أسوة بأكراد العراق.

حاول النظام السوري تحييد الأكراد في سورية، فمنحهم الجنسية، وأعطاهم وعداً بالحُكم الذاتي، بعد توسُّط إيران في الموضوع، مقابل المحافظة على مناطقهم ضد المجموعات المعارضة للنظام، لكن أميركا، وبعد خسارتها في حلب، حاولت أن تستفيد من التناقضات، فحاولت الانقلاب على أردوغان، لكنها فشلت، وعملت على تعزيز الحضور الكردي في مناطق الشمال العدو اللدود لتركيا، من أجل إحداث توازن عسكري بعد القرار الروسي - الإيراني - السوري باستعادة حلب؛ المفصل الأساس في المعركة في سورية.

هذا الأمر أغاظ تركيا ودفعها إلى التدخُّل العسكري في الأراضي السورية "درع الفرات"، تحت عنوان حماية أمنها القومي بمحاربة "داعش" الذي دعمته بفتح المعابر الحدودية لدخوله إلى سورية وشراء النفط منه، وفتح مراكز التدريب له والمستشفيات لجرحاه، وفي الوقت نفسه محاربة أكراد سورية خوفاً من إعلان دولتهم، ولاتهامهم بالعلاقة مع حزب العمال الكردستاني "الإرهابي" (BBK)، وعملت على إقامة المنطقة الآمنة، وذلك بإحكام سيطرها على طول الحدود السورية التركية بمسافة 90 كلم من جرابلس إلى اعزاز، وتعمل للتوغُّل بعمق 50 كلم، ولعودة الأكراد إلى شرق الفرات، وعزلهم عن غربه.

فتقدّمت تركيا في دابق ومارع، وهي تعمل لاحتلال منبج، وتتقدم باتجاه منطقة الباب، التي ما يزال تحت سيطرة "داعش"، التي يسعى الجيش السوري لاستعادته قبل سيطرة الجيش التركي عليها.

أما أميركا فقد بدا عليها الارتباك في العديد من مواقفها، وذلك من خلال دعمها لأكراد سورية، وتحذير تركيا من التمادي في تدخُّلها العسكري، وفي وقت لاحق تسمح لتركيا بتماديها العسكري والسير بمشروعها للمنطقة الآمنة، وضرب الأكراد في مناطق سيطرتهم في غرب الفرات.

أمام تعقيدات المشهد السوري والمواقف المتضادة للسياسة الأميركية نسأل: هل تستطيع تركيا أن تحسم المسألة الكردية لمصلحتها في سورية، وهي ما تزال تعاني من أزمة كبيرة مع أكراد تركيا ولم تجد حلاً لمشكلتهم؟ وما هي ارتدادات هذه الأزمة على المستويَين الأمني والاقتصادي؟ وهل يسمح حليفها الأميركي قبل السوري وحليفيه الروسي والإيراني بتجاوُز الخطوط الحُمُر واختراق السيادة بهذا الشكل الفاضح؟

من المبكر الحديث عن الأحلام الأردوغانية في حل المشكلة الكردية على الطريقة "العثمانية"، خصوصاً في ظل المؤشرات التي تدلل على ضعف أميركا وحلفائها، مقابل قوة الحلف الروسي - الإيراني - السوري، الذي حافظ على تقدُّمه، وأصبح الكلام عن استبعاد الرئيس بشار الأسد من أية تسوية مقبلة، من الماضي.