لا يمكن لمفهوم “العزل” أن يسقط بديهيًا أو تاريخيًا من المُعجم المحلي وتحديدًا المسيحي. هو وجهٌ آخر لـ”الإلغاء” الذي كان سلاحَ الكره الأقوى مسيحيًا على امتداد 25 عامًا. احتفل بطلا المفهوم منذ عام باليوبيل الفضي لكرههما وأطلقا يوبيلًا جديدًا عنوانُه “التفاهم”... ومع ذلك، لم يُطمَر المفهوم، لا بل عاد بقوّةٍ في أوّل أيام العهد الجديد، لكن هذه المرّة ليس بين الغريمين التقليديين (سابقًا) بل بين الحليفين التقليديّين (سابقًا).

لحكاية القوات والكتائب متفرّعاتٌ لا بل تاريخٌ “متلطٍّ” خلف شعارتٍ حُلوة ومغرية. لهما تاريخيًا باعٌ من “النضال” غير المشترك، والذي استحال عكس ذلك أقله ظاهرًا مع “انبثاق” فجر “ثورة الأرز” (سابقًا) وما أعقبها من محطات.

لم تشفع الـ”نعم”!

10 سنوات من التجانس الحذِر. المنبرُ نفسُه جمع الرئيس أمين الجميل والدكتور سمير جعجع. المناسباتُ ذاتُها جمعتهما. الشعاراتُ عينُها جمعتهما. الثوابتُ نفسُها جمعتهما.... حتى رفضُ ترشيح الرئيس الحريري لسليمان فرنجية جمع الحزبين. في أولى الجلسات الرئاسية صوّت الكتائبيون لسمير جعجع، عملوا “بأصلهم” على ما يحلو لهم أن يقولوا مع “بعض تربيح الجميل” من باب تذكير الحكيم بأن للكتائبيين في رصيده خمسةَ أصواتٍ مؤيدة يومذاك. تسارعت الأحداث. تدهورت العلاقة بين معراب وبيت الوسط، فاجأ جعجع الجميع بتفاهمه مع عون ثمّ بتبني ترشيحه ثمّ بالاستماتة من أجل إيصاله الى قصر بعبدا. حصل الأمر فعلًا، وكان الكتائبيون في مرحلة التفاهم الثنائي خارجًا كما وفي تسوية الرئاسة التي دخل على خطها الحريري. لم تشفع “نعم” الكتائب الدائمة، المسهّلة لشؤون التشكيل والطامعة بمقاعد وزارية منها ثلاثة في آخر الحكومات (حكومة تمام سلام)، بالحزب المتمايز لدى الحريري ليلتمسَ رأيه في تسويته التاريخية أو ليقف على “خاطره” مع علمه المسبق بأن أبا الحزب (أمين الجميل) هو مرشّحٌ دائم للرئاسة.

إحساسٌ غريب

لم يُضنِ القواتيين أن يكون الكتائبيون شركاء في كلّ حكومةٍ ولدت بعد العام 2005. كان عدم المشاركة خيارًا قواتيًا بحتًا بغض النظر عن موقف الحلفاء الذين شاركوا في جُلّهم. ولم تكن مشاركة مماثلة لتولّد حساسيّة بين حزبٍ خارج من رحم آخر. في ليلةٍ قمراء، ولد اتفاق الرابية - معراب ومعه ولد إحساسٌ “غريبٌ” لدى أبناء الكتائب بأنهم أصبحوا خارج اللعبة وبأن الثنائية المسيحية قائمة على مبدأ “الإقصاء”. طبعًا لم يبذل العونيون والقواتيون جهدًا عظيمًا لضمّ الكتائبيين الى صفوفهم، ولا سعى أبناء الصيفي في دورهم الى ركوب الموجة الصَّفحية المسيحية، بل مضوا في معارضتهم وفي ترداد ما لم يتردّد النائب سليمان فرنجية في ترداده عن محاولةٍ جليّة لإلغاء المكوّنات المسيحية الأخرى المغرّدة خارج عباءتَي الرابية ومعراب، وقبله إلماح الكتائبيين الى أن الرابية ومعراب مسؤولتان عن التعطيل.

لم تنتهِ الحكاية...

حصل ما لم يتوقّعه الكتائبيون أنفسهم. أن ينجح جعجع في إيصال عون الى الرئاسة وأن يؤمَّ السلطة بحصّة “حرزانة” مقارنة بحجمه البرلماني الذي يكاد يفوق الكتائب بثلاثة مقاعد لا أكثر، سيناريو غير منتظر في حسابات بكفيا. وأن تؤول حصّة الوزراء الثلاثة الى معراب بعدما كانت من نصيب بكفيا، تركيبة غير منتظرة هي الأخرى. خلط العهد الجديد أوراق الحزبَين، دفع بسامي الجميل، الى الارتقاء بنظرية “العزل” غير متردّدٍ في اتهام معراب بممارستها في وجه حزبه. لم يكن أمام القواتيين “المنتشين” بمفاوضات المرحلة والشادّين ظهورهم بفخامة العماد سوى أن يكونوا “بالمرصاد”. تبيّن للقواتيين أن مشكلة سامي الجميل “شخصيًا” ليست في معراب، بل في مكان آخر مع دعوةٍ “ليحلّ عن القوات”. اشتعلت الردود والردود على الردود الى أن استوعب المسؤولون في الحزبين خطورة السقف الذي بلغته حملات السُباب والتشهير فكان الردع عبر بياناتٍ مقتضبة فيها دعواتٌ الى وقف التصعيد عبر وسائل التواصل الاجتماعي... ولكنّ الحكاية لم تنتهِ!

“خطيئة”...

يعتبر القواتيون أن “عدم التصويت” لعون ليس استهدافًا لشخص فخامته بقدر ما هو تصويبٌ على تفاهم الرابية-معراب، وبالتالي خروج أي فريق مسيحي “وازن” عن مثل هذا التفاهم الذي قلّص وتيرة الحقد والاحتقان إنما هو “خطيئة” في هذا الزمن، وبالتالي فإن سلوكيات “الكتائب” من شأنها إضعاف الصفّ ورميه بمزيدٍ من “الوهن” السياسي بعدما اطمأن المسيحيون، في معظمهم كي لا نقول في رمتهم، الى دورهم في المبادرة وفرض كلمتهم في تقرير مصير السلطات الثلاث. كان أهون على الكتائب التموضع مع الرئيس نبيه بري والنائب سليمان فرنجية على “الذوبان” في الثنائية المسيحية المباركة من بكركي في الأساس. كان أهون عليهم التصويت لثورة الأرز الميتة على التصويت لميشال عون، مقابل التصويت بعده لسعد الحريري. تركيبة هجينة يسأل كثيرون ما إذا كان الرئيس أمين الجميل “المُحنَّك” ليرتضي بها لو كان هو على رأس الحزب اليوم لا ابنه.

الجميع فائز...

لو لم يكن الرئيس الحريري منشغلًا بتشكيلته الحكوميّة التي يعمل على إبصارها النور قبيل عيد الاستقلال، لتدخّل بشكل أقوى بين ابنَي الثورة البارّين. ولكن انهماكه في التأليف والوقوف على “خاطر الجميع” دفعه الى إسناد هذه المهمة الى مقرّبين، فنشطت المساعي لتجنّب مزيدٍ من “الشظايا” السياسية والشخصية في مرحلةٍ يجب أن تتسم بالهدوء، ولقطع الطريق على كلّ من بدأ يتحدث عن أن الفتور القواتي-الكتائبي هو السبب الكامن وراء تأخير تأليف الحكومة لا بل هو معرقِل مهمّة الحريري. أما وقد حسم الكتائبيون أمرَ مشاركتهم، وحفظ الحريري لهم حصّة قد لا ترقى الى تطلعاتهم مقارنة بما حصدوه في الحكومة السالفة، فإن الأمور بين الفريقين تتجه الى مزيدٍ من الإيجابية والتروّي، وهو ما سيعكسه الرئيس الكتائبي الشاب بعد يومين في إطلالته التلفزيونية، على أن يكون الجميع فائزًا: من جهةٍ نجح القواتيون في “تحجيم” الكتائبيين سياسيًا ولا سيما حكوميًا وربما انتخابيًا بعد أشهر، ومن جهةٍ أخرى يكون الكتائبيون قد كسروا مبدأ القواتيين بإبقائهم خارج العهد الجديد بذريعة أنهم لم يصوتوا للرئيس عون وبالتالي لا مكانة لهم في عهده، فيما يتمسّك الجميل بتسويغة النظام البرلماني لا الرئاسي.

صورة العهد الجديد

أغرب ما في حكاية معراب والصيفي أن الأولى تبنّت حديث الثانية عكسيًا، فعرّج استخدام “العزل” الى ألسنة القواتيين، وباتت المظلومية التي يصرّ الكتائبيون على إبرازها هذه الأيام ضائعة. أيًا يكن، أفلحت التهدئة نسبيًا على خطّ معراب-بكفيا. هي في الحقيقة الصورة التي يريدها كلٌّ من عون والحريري لعهدهما طالما أنهما أخذا على نفسيْهما في الأساس تشكيل حكومة وفاق وطني.