عندما رأيت الجنرال ميشال عون يمشي بإفتخار وبخطوات الشباب وهو يلج قصر بعبدا رئيساً للجمهورية اللبنانية بعدما خرج منه مرغماً تحت نيران الطيران السوري يدكّ القصر في ال1989، عاينت مجدّداً معنى الهوامش الشخصية وأبعادها وحضورهاالهائل في تحديد السلطاتوالسياسات ومستقبل الأوطان، وهي قد تتوسّع أحياناً لدى الكبار فتتجاوز مساحات العالم.لا أدري لماذا إمّحت من ذهني كليّاً في تلك اللحظة بالذات صورة الجدار الوهمي القائم في خلدي بين ما كان يعرف ببيروت الشرقية وبيروت الغربيّة. وإذا كان فخامة العماد قد رفع بكلتي يديه إشارة النصر بدلاً من إشارة التيّار الوطني الحر، فهذا لن ينزع بسهولة مدى الأحقاد والمرارات والروايات الطويلة المرّة التي تركها دكّ القصر في نفوس الكثير من اللبنانيين، بحثاً عن أنساق صعبة من مستقبل العلاقات بين الدول العربيّة في تبعثرها الخطير.

الواقع أن من يتابع إعادة ترتيب الفراغ اللبناني،بإنتخاب رئيس للجمهورية ورئيس للحكومة والتهيوء الى تشكيل الوزارة، والتوجه نحو إنتخابات برلمانية لربّما يتجدّد العتق السياسي، لا يمكنه سوى السؤآل:

ألا يدهشنا هذا الربط التاريخي المحكم بين زوايتي الغريزة والعقل في سلوك البشر عندما تتنزّه أمزجتهم بين الهدوء والغضب والسكوت والإنفعالات والحكمة والضرب وصولاً الى مشقّة الإكتواء بنيران الحرب حتّى الموت قتلاً ثمّالحلم الذي كاد أن يكون مستحيلاً لتتحوّل الإستحالة الى سحر السلام وعظمة السلطة؟ لكن حذار! لقد إكتمل المثلّث وصلب أو كاد وطنيّاً،وهو يبدو أكثر شراسة بعدما شغل اللبنانيون الذين صاروا كلّهم عونيون، بينما يستمرّ الإعلام الزاوية الثالثةويفيض في تشبّثه بالحوارات الكيدية ونبش الماضي في أزمنة التحوّل بين الحرب والسلام . وهنا أذهب خوفاً من الإعلام الى أبعد من لبنان:

يتّفق مفكّرو العالم على مسلّمة هي إنهيار الجدار الأوّل بين الإلمانيتين،المحطّة الأبلغ في زواج الحرب الجديدة والإعلام لأنّه كان يمثّل النتوء العالمي الأخير الذي يجب إزالته لكونه الشاهد الضخم على الإنقسام الحضاري ومآسي الحربين الكونيتين. كان هذا الجدار يسدّ القدرة على التفكير في العالم كمساحةً واحدة أو سوقاً عالمياً لأنّه طبع العقل العالمي بالوقوع الدائم في تبنّي الخيار بين الشرق والغرب أي بين الإتحاد السوفياتي وأميركا. وكان التلفزيون الغربي بصوره الزاهية وبرامجه الغربيّة المتنوّعة هو السجّادة التي ساهمت في سقوط الجدار أو أسّست لسقوطه بعدما عبر من فوقها الأميركي، من دون دماء، ليلهب مشاعر الروس وشعوب المنظومة الإشتراكية وطموحاتهم ويسمّر إنتباههم ويقظتهم على فضائل الوفرة في الحريات وصورة الرغد والديمقراطية في الغرب.

كانت الحروب والأحقاد وقد خبرناها جميعاً وما زالت تحمل هويّة واحدة هي القتل. تسقط في أثنائها المشاعر والقناعات والمواقف التي تصاحبها من بعيدٍ أو قريب إقراراً بعدم جدواها. إنّها التحقيق العملي للهواجس العنفية والغرائزية التي يألفها المقاتل متلذّذاً بتبادل النيران التي تخيّم على الجميع موتاً وبكاءً وتشويهاً وتدميراً وندماً من ناحية لكنّها تتّخذ لوناً أخر عندما تضع الحروب أوزارها عبر الإحتفالاتبالنصر وتوزيع الأوسمة ورفع النصب التذكارية التي غالباً ما تترجم المجد العسكري شواهد على التاريخ.أمّا أن يبقى المزاج لدى الكثير من الإعلاميين واقفاً عند إدمان الخصام والإنقساموالعنف وحفر الخنادق، فظاهرة رهيبة بحاجة الى دراسات مطوّلة تفترض جنوح الصحافة من الرسالة الى الثروات.

يمكنني كباحثٍ متخيّل الآن وأنا أتصدّى لفهم أو هضم هذا العنف والإرهاب القائم في الشرق الأوسط، أن أجازف في الإفتراض بأنّه قد (كي لا أجزم) لا يمكن التخلّص من الحروب لأنّها ترتبط بتطوير الإنسانية وإنضاج حكمتها وحفر عبرها ودروسها، لكنّني أعتقد أن الحروب تسكن عقل الإنسان وهي تستغرق على معظم النشاط البشري الى حدود تسمح بالربط المتخيّل تاريخياً بين عبسة قايين الأسطورية في وجه أخيه هابيل وسقوط القنبلة الذريّة فوق هيروشيما (1945). وها نحن نجد أنفسنا في البلاد التي قتل فيها هابيل وفقاً للأسطورة أو وفقاً لمدونات اليعقوبي والمقدسي وابن جبير والبلاذري وابن بطوطةوفيها التدوينات أن قايينوهابيل أقاما فيبلاد الشام. الأوّل في"قينيّة" والثاني في"مقرى"، وأنّ العاصمة السورية دمشق هي أقدم مدينة في التاريخ يرتبط إسمها ببداية الخليقة مع أنّها لم تشهد إجراماً ووحشيةً كالتي نشهده فيها اليوم من قتل وذبح وتهجير لسكانها وتهديد لجيرانها وللمستقبل العربي بشكلٍ عام .

يحفل التاريخ، بالمقابل، من هذه الزاوية الأليمة، بكتب المذكّرات والمسامحة التي يبرّر فيها القادة والسياسيون (والإعلاميون أيضاً اليوم)الضحايا والألام والإعاقات التي أورثوها بحروبهم والتي قد تقرأها الأجيال المتعاقبة بنهمٍ وإحتقار وضياع أكيد بين السرد الموثوق والمحرّف أو الناقص والكاذب للوقائع والأحداث.

يمكننا التذكير هنا بمثال قريب، هو الزيارة التي قام بها الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى فيتنام (23أيّار/مايو 2016) هي الثالثة بعد زيارتي بيل كلينتون الإبن عام 2000 وجورج بوش في ال 2006 أثناء الغزو الأميركي للعراق،وكذلكزيارته في 27 أيار/مايو 2016 مدينة هيروشيما اليابانية التي شهدت أول هجوم نووي في التاريخ من الولايات المتحدة، ليصبح بذلك أول رئيس أميركي يقوم بهذه الخطوة التي تحمل دلالات تاريخية ورمزية مهمة على ما نحن فيه في ظلّ حالة من انعدام الثقة والتوجس والخوف السائد من أهوال الماضي. صحيح أنّ الزيارة جعلت من إرث الحرب جزءاً من الماضي لا يمكن إدراجه في خانة التطبيع كما حصل مع زيارته الى كوبا أو إيران، لكنّ الذهاب نحو آسيا وتعزيز العلاقات التجارية معها جاءت شعاراً واضحاً لأوباما منذ بداية عهده في البيت الأبيض، وهو ما يفصح عن إستراتيجية نقل مركز ثقل السياسة الخارجية الأميركية نحو آسيا لأسباب اقتصادية وعسكرية وفي طليعتها الحشود العسكرية لبكين في بحر الصين الجنوبي تحت وطأة الأزمات المتلاحقة في الشرق الأوسط. وهو ما يضمر الكثير من النزاعات والحروب المستقبليّة.

وتذهب الأمور أحياناً الى حدود إعتذار الأبناء والأحفاد عمّا أرتكبه أجدادهم من المصائب والندوب القبيحة عبر خوضهم للحروب التي أفلت وهي لا تدخل خانة النسيان بسهولة، فتبقى جروحها ودماؤها طريّة في ندوب قدامى المحاربين الجسدية والنفسية أو مع عائلات الشهداء ولو حفرت أسماؤهم في الساحات وأمام أعمدة المتاحف وعلى اللوحات في المواقع العسكرية التي سقطوا فيها.

كم نحن بحاجةٍ الى أجيال كي ننسى تلك المثلّثات المحشوة بالكوارث بين زوايا الحرب والسلم والإعلام؟