لم يعد العماد ميشال عون قطبًا من أقطاب بكركي الأربعة المرشّحين للرئاسة بعدما غدا هو الرئيس، ولم يعد البطريرك مار بشارة بطرس الراعي مضطرًا الى بحّ حنجرته والى زجّ دعوته الى انتخاب رئيس في كل عظة أحد وعند اعتلاء المنبر، أي منبر. “الرئيس القوي” في بكركي و”البطريرك القوي” في أحسن حالاته.

تمامًا كما تمنح الكنيسة ظهيرًا لعون، يمنحها هو الآخر القوّة للمضي في معركة تثبيت دور المسيحيين في السلطة والمؤسسات والنهضة الوطنية الشاملة. في الأمس، استذكر الرجلان في الصرح لقاء عيد مار مارون الأخير، فكانت بعد المباركة والبركة رسائلُ بالجملة لم تمرّ مرور الكرام على عين التينة.

“فيتامين” الرئاسة!

تغيّر وجه الراعي منذ 31 تشرين الأول الماضي. لم يعد الكاردينال يعاني نقصًا حادًا في فيتامين “الرئاسة” ولا بات في حاجة الى ترطيب حنجرته بين فينةٍ وأخرى لكثرة الدعوات والدعاءات الى انتخاب رئيس، وما عاد ملزمًا على إرهاق قدميه العجوزتين في جولاتٍ عالمية هدفها غير رعوي بقدر ما هو رئاسي. أنهت التسوية السياسية عذابات الراعي. وضع صليبَه جانبًا وانتظر زيارةً من الرئيس ميشال عون أتت بعد 18 يومًا على انتخابه بعدما تفرّغ الرئيس العماد قليلًا وتأقلم مجددًا مع حياة القصر، وكَودر فريق عمله واستقبل المهنئين والسفراء المقدمين أوراق اعتمادهم والموفدين الخارجيين. هو دور الراعي، لا بدّ لتلك الزيارة التقليدية من أن تتمّ استجابةً لعرفٍ كنسي- سياسي عمرُه سنون. فالكنيسة المارونية هي أمّ الرئيس، ودورُها أفلح أحيانًا في دعم وصول كثيرين من رؤساء الجمهورية كما في الاعتراض على وصول آخرين. دورٌ “تفرمل” نوعيًا وغدا من أحلام ما قبل الطائف وما انفكّ كذلك مع الكاردينال الشاهد الحيّ مار نصرالله بطرس صفير وفترة زمنية لا يُستهان فيها من ولاية الراعي. خلافًا لمن سبقهما، لم يكن صفير والراعي “صانعَي رؤساء”.

لم تكن شديدة السوء

صحيحٌ أن العلاقة بين رئيس الجمهورية والكنيسة المارونية لم تهتزّ بقدر ما راهن كثيرون، بيد أن الفتور نجح في التسلل الى صرحيهما في غير مناسبة، فكانت مواجهة “مُشخصنة” أكثر منها بين الموقعين في ذاتيهما. لم يطل الأمر، حلّ الراعي بطريركًا وحرص على “دبلوماسية” نقيّة جلية لم تمنعه من المجاهرة في أكثر من مرّة بإمكانية تزكية خيارٍ مستقل في حال لم يتفق أبناء الكنيسة الأربعة (الأقطاب) على دعم مرشح واحد. لم تكن علاقة الراعي وعون شديدة السوء رغم أن فتوراتٍ محدودة اعترتها في غير مناسبة ولا سيّما في أواخر عهد الرئيس ميشال سليمان، يوم شعر العونيون بانحياز الراعي الواضح الى خيار الرئيس السابق ودفعه بصورةٍ غير مباشرة في اتجاه إبقاء قانون الستين حيًا. لم تُحمَّل الحكاية أكثر مما تستأهل، فبقيت العلاقة ودّية من دون أن تعتريها الحميمية الجارحة. التقى الرجلان على أكثر من ملف، نال عون من الراعي بعض “اللطشات” المتعلقة بتعطيل مجلس النواب وجلسات انتخاب الرئيس، قبل أن يعود ويتفهّم سرّ ذاك “التعطيل”، ويطلق أسهمه صوب بري وسلّته. هنا استشعرت بكركي والرابية بكيمياء رهيبة كانت مختبئة في مكان ما. وحّدهما رفض سلّة بري التي تربط الرئاسة بعداها من ملفات. فَهِم كلاهما أن كلّ الهدف من هذا الطرح عرقلة وصول عون الى قصر بعبدا. ترك عون المهمة للراعي، فصوّب الأخير خلال ثلاثة آحاد متتالية. هنأه عون على مواقفه فردّ الراعي مشيدًا بالإصلاح والتغيير اللذين يرتقي بهما.

تزكية صريحة لخيار عون

أيًا يكن، لا حاجة الى الغوص في تاريخٍ لم تنخره خصوماتٌ أو صراعاتٌ أو تنافراتٌ يُحكى عنها. ولا تليق بعلاقة بكركي والرابية مقارنة “ما قبل الرئاسة ليس كما بعدها”. جلّ ما في الأمر أن التيار الوطني الحرّ تفهّم يومذاك حرقة الراعي، والأخير تفهّم أحقيّة عون في الرئاسة، بما يتماهى مع مناشدة البطريرك انتخاب “رئيس قوي” يعيد للموقع هيبته وللدور المسيحي في المؤسسات ألقَه. في الأمس، استذكر الرئيس والبطريرك لقاء مار مارون الأخير الذي خرج منه عون “رئيسًا” افتراضيًا بعدما اعتبر كثيرون من معارضيه أن الراعي يريده فعلًا وأن ما تسرّب من اللقاء يشي بأن بكركي آثرته على سواه من المرشحين المتداولة أسماؤهم. فرضيةٌ عززتها بعد ستة أشهر تقريبًا مواقفُ نارية من بكركي ضدّ “السلّة”، وهو ما زرع بذور مواجهةٍ قاسية بين الراعي وبري شخصيًا، خصوصًا أن كثيرين قرؤوا تصويب الراعي على السلّة يومذاك تزكية صريحة لخيار عون، معززة ببيانات المطارنة الموارنة الشهرية.

“خطف البرلمان”!

لم تكن زيارة عون الى بكركي مجرّد زيارة تهنئة، بل شكّل الصرح منصّة ليقول الرئيس ما كان يقوله العماد: التمديد قضى على مؤسساتنا. لم يستسغ بري الأمر وهو الذي يعتبر أن المجلس الذي أصرّ عون على توصيفه بـ”غير الشرعي” انتخبه رئيسًا، وبالتالي “التمديد سيئ لكن تعطيل انتخاب الرئيس كان أسوأ”. وأبعد من ذلك لطشةٌ أخرى لبري من باب التمسُّك ببعض الحقائب كبديل عن سقوط خيار السلّة. علمًا أن الهمس البرتقالي لا يتناسى - إن فعل بري- يوم أقفل الأخير أبواب مجلس النواب أواخر العام 2006 واتهمته أكثرية نيابية بالتفريط في ما ائتمن عليه، فيما ذهب آخرون الى اتهامه بـ”خطف البرلمان” وهو ما أثار استياءه يومذاك لا سيما خلال اعتصام رمزي نفذه ما يربو على 50 نائبًا في وجه إقفال أبواب المجلس. أما بعد، فلم يضيّع الرئيس والبطريرك وقتهما في الرسائل السياسية بعدما تمّ الأمر وغدا رضوخ الجميع للمشاركة في العهد الجديد مسلمًا فيه، فكانت محطات الغزل وبطلُها: نضال عون الطويل، وقيم بكركي الضمانة.

بشرعيةٍ أكبر...

ذهب اللقاء الأول بين الرئيس عون والبطريرك الراعي أبعد من حدود “المهادنة” التي يظن كثيرون أن مرحلة التأليف تفرضها على الجميع. اتفق الطرفان على مسلماتٍ “مسيحية وطنية” استدعت ردًا من بري كما ومن المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى. وكأني بالرجلين أعادا إحياء قواعد الاشتباك مع عين التينة ولكن هذه المرة بشرعية أكبر. بشرعية بطريرك ورئيس “قويَّين”!