يحفل أرشيف عمليات تأليف الحكومات اللبنانية بسِجلّ واسع من التأخير والمماطلة قبل بزوغ فجر توقيع المراسيم ومِن بعدها التقاط الصورة التذكارية الرسمية، فبعض الحكومات استغرَق تأليفها ما يقارب نصفَ عمرها الفعلي. وقياساً عليه لا يبدو عدم خروج تشكيلة الحكومة المزمَع تأليفُها حتى الساعة بالأمر الخارج عن المألوف اللبناني غير السوي الذي كاد يتحوّل عرفاً تسير عليه كلّ الحكومات منذ ما قبل الخروج السوري إلى ما بعده.ولتأخير التأليف في العادة أسبابٌ جمّة، لعلّ أبرزها التنازع على الحقائب الوزارية الحبلى بالموازنات المالية الكبيرة والخدمات التي من خلالها يتمّ إرضاء «الحاشية» ومِن بعدهم العموم من أهل الدائرة الانتخابية للوزير الذي غالباً ما يجمع إلى حقيبته الوزارية حصانةً نيابية، أو تلبيةً لمطالب بيئة التنظيم أو المرجع الذي أدخله إلى النادي الوزاري.

وحتى الساعة لا يزال الوزير الممرّ الإلزامي للمواطنين للحصول على خدماتهم المشروعة، فما بالك بغير المشروعة منها والتي باتت تشكّل خميرةَ ثروات بعض أهل السياسة من المحظيين بالحقائب الوزارية. هذا فضلاً عن الشراسة على ما يُصطلح على تسميته الحقائبَ السيادية التي لحيازتها قيمة معنوية أكثر منها إنتاجية عند الأحزاب والتيارات والمرجعيات.

وفيما يبدو عمر حكومة العهد الأولى قصيراً نسبياً إذا ما افترَضنا خروجها من نادي الفعالية التامة في الصيف المقبل مع الانتخابات النيابية التي تعهَّد كلّ مِن رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس الحكومة المكلف سعد الحريري بإجرائها، إلّا أنّ لمعركة التأليف الوزاري هذه المرّة معنى مختلفاً بنكهة رئاسية أكثر منها حكومية.

ويبدو أنّ خلف خطوط معركة تأليف الحكومة معارك أخرى أكثر أهمّية عند اللاعبين الأساسيين المعنيين بها وخصوصاً في ملعب الموارنة، إضافةً إلى بقية الأفرقاء، كلٌّ وفق أجندته وحساباته.

ويمكن استخلاص تلك المعارك المستترة بالآتي:

- إستكمالٌ لمناوشات معركة الانتخابات الرئاسية التي خيضَت في وجه عون بالورقة البيضاء أساساً بقيادة رئيس مجلس النواب نبيه بري والمرشح الرئاسي سليمان فرنجية وآخرين، منهم المعلوم وبعضهم المستتر حتى الساعة، إضافةً إلى حزب الكتائب اللبنانية الذي سدّد في وجه عون أوراقاً كتِب عليها «ثورة الأرز في خدمة لبنان».

هذا فضلاً عن بعض عمليات «الشغَب» في محاولةٍ لتعكير، بل وربّما تطير نصاب الجلسة، يبدو أنّ رصاص بعض اللاعبين السياسيين الطائش، والذي يحتفظون به في جعبتهم المحشوّة بشتّى أنواع الذخائر السياسية الحيّة، لا تزال شظاياه تتطاير واحدةً من رواسب ما قبل الرئاسة.

- يدرك الجميع أنّ المهمة الأساس للحكومة التحضير للانتخابات النيابية، سواء بالإعداد لقانونها أو الإشراف عليها، ولأنّ عصَب تكوين السلطة في لبنان يعود إلى مجلس النواب الذي يُستشار أعضاؤه إلزاماً لتسمية رئيس الحكومة المكلّف ويمنحها الثقة أو يحجبها عنها، ولأنه المجلس الذي بأصواته ينتخب الرئيس وبثلثِه يعطل وصولَ أيّ مرشح إذا ما استخدم سلاح تطيير نصاب الجلسات، لذا فإنّ شياطين الانتخابات البرلمانية حاضرة إلى جانب «ملائكة» التشكيل.

وعليه، يسعى كلّ فريق إلى جانب حلفائه للاستحواذ على أكثر الحقائب قدرةً على تلبية رغبات المواطنين المقترعين وحاجاتهم في واحدةٍ قد تكون من أهمّ الانتخابات التي ستشهدها البلاد في ظلّ رئيس للجمهورية من نادي الأقوياء ورئيس حكومة يسعى للعودة إلى ما كان عليه من كتلة نيابية وازنة سينافسه عليها بعضٌ من حلفاء اليوم وأصدقاء الأمس.

هذا فضلاً عن تكوين أكثرية داخل مجلس الوزراء لإمرار قانون انتخابي معيّن، أو تعطيل الوصول إلى قانون لا يناسب تلك التحالفات التي تشهد تبديلاً حسب المصلحة.

- أمّا المعركة الأكثر غموضاً، وإنْ كانت الأكثر قوّة وتأثيراً في عملية تأليف الحكومة فتتمحوَر حول الاستحقاق الرئاسي المقبل ومن سيكون «وليّاً للعهد» من اليوم، ليجلسَ على كرسيّ الفخامة بعد عون غداً. ومن المصادفات أنّ المتحاربين الثلاثة الأساسيين جميعُهم شماليّون، وعليه فسيكون لانتخابات الشمال نكهتُها الخاصة التي قد تلهِب المتخاصمين.

فالنائب الزغرتاوي فرنجية الذي انسحبَ من المعركة الرئاسية شاهراً أوراقه البِيض في وجه عون يُمنّي نفسَه بخوض المعركة الرئاسية المقبلة تحت فيء وعد الأمين العام لـ»حزب الله» السيّد حسن نصرالله له بأن يكون مرشّحَ الحزب المقبل. ذاك الوعد الذي قابله الحريري بالودّ والقبول في أكثر من تصريح وإطلالة إعلامية.

وعلى هذا الأساس وضَع «رئيس الظلّ» الوزير جبران باسيل على حليف الأمس الزغرتاوي «حُرم» الحقيبة الأساسية، ليس منعاً لتحقيق مكاسب انتخابية شمالاً وحسب، بل «بروفة» لحُرمٍ رئاسيّ سيُشهر في وجهه ومن خلفه «حزب الله» إذا ما أراد تحقيقَ وعده لفرنجية بدعمه.

أمّا رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع فيصِرّ على تنفيذ «الاتفاق العوني ـ القواتي» في ما خصَّ تأليف الحكومة، تمهيداً للوصول إلى بندِ الرئاسة وتسديد «التيار البرتقالي» له فاتورةَ «إتفاق معراب»، بانتخابه رئيساً للجمهورية بعد عون.

وحتى الساعة وقبل إنزال ستارة نهاية معركة تأليف الحكومة وما سينتج عنها في ميزان المعارك الجانبية، يصِرّ فرنجية على انتزاع حقيبة أساسية من حصّة المسيحيين ليضمنَ نفسَه «وليّاً للعهد»، فيما يَشهر باسيل سيفَ الحُرم عليه، ليس على حساب الرياح السياسية الشمالية وحسب، بل بخلفيةِ الطامح إلى الخروج من ظلّ الرئيس إلى كرسيّه مستنداً على نشاطه الزائد المعترَف به من خصومه قبل أصدقائه، إضافةً إلى ما حقّقه لرئيسه العماد من تسوية أوصَلته إلى بعبدا، بعدما حاكَ بنفسه معظم خيوطها.

أمّا جعجع فحتى الساعة يبدو أنّه الأقرب إلى الخسارة من بقيّة الأطراف، ومن علامات الخسارة تنازُل «القوات» إضطرارياً عن الحقيبة السيادية التي نصَّ عليها الاتفاق مع «التيار البرتقالي» بفعل «الفيتو الأصفر» لـ«حزب الله»، وبالتالي سقوط أولى بنود اتّفاق جعجع مع «التيار الوطني الحر» في مقدّمةٍ لسقوط البند الغائب الحاضر وهو الأساس «كرسيّ بعبدا» التي يبدو أنّ السباق نحوَها قد انطلق باكراً بلاعبين شماليين أساسيين: سليمان فرنجية وجبران باسيل.. وما معركة تاليف الحكومة إلّا مناورة حيّة عن معركة الانتخابات النيابية ومِن بعدها الرئاسية.. وللمعارك صلة.