منذ ان ابصرنا النور في هذا البلد الذي نحب، وجدنا انفسنا في حضرة احزاب سياسية حاولت الدخول الى ساحة المعارك الديمقراطية، ولكنها فشلت للاسف. وبعد فترة قصيرة، وبفعل الحرب التي ارست مرساتها في لبنان، سرعان ما اصبحنا في "بحر" من الاحزاب التي تخلت عن السياسة وتحولت الى ميليشيات كل منها قرر الدفاع عن مكون من مكونات اللبنانيين، فانقسمت الارض وانقسم الشعب، وبقيت الاحزاب.

اليوم، وبعد عقود طويلة من الزمن، اصبحنا في حضرة السياسة بعد سكوت المدفع، ووجدت الاحزاب انه من الافضل لها ان تعيد تجديد الدماء والغوص في الديمقراطية لانها سمة من سمات التطور والرقي والتواصل مع المواطن بأفضل طريقة ممكنة.

واحدة تلو الأخرى، بدأت الاحزاب تخوض معاركها الديمقراطية الداخلية، وتسوّق لها عبر وسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بأنها وللمرة الاولى في لبنان، ستحترم ارادة الحزبيين ونبض الشارع الحزبي وسترتدي الديمقراطية ابهى حلتها. لكن النتيجة، كانت وللاسف، على عكس ما تم التسويق له، فبقي راس الهرم نفسه فيما تغيرت الصورة لدى القاعدة فقط، وهذا الامر تم في كل الاحزاب وليس في حزب واحد فقط.

ماذا يعني هذا الامر؟ من المنصف القول ان الاجابة على هذا السؤال تعني ان الوضع السياسي في لبنان سيبقى ضمن اطار "راوح مكانك"، فعندما يخاف المسؤولون الحزبيون من التغيير، تكون النتيجة الاستمرار في النهج المتبع والذي لم يثبت فعاليته خلال السنوات الطويلة التي مرّت. اضافة الى ذلك، فإن هذا الامر يعني ايضاً انه لا أمل في التغيير والاصلاح في المستقبل، وسنبقى في دوامة الحراك السياسي المقفل وسط غياب الحضور الحزبي الفاعل بمفهومه الحقيقي.

واقعنا اليوم يقول لنا وبصوت عال، ان الاحزاب في لبنان هي عبارة عن "متاريس" توضع في وجه بعض وان العقلية "الميلشياوية" انتقلت من الشارع والسلاح الى المؤسسات والمنابر، وهذا "المرض" بات يتغلغل في الجمعيات والتيارات فترى "موضة" الاعتصامات والاضرابات كلما اتخذ قرار لا يصب في خانة هذه الجمعية او تلك، او هذه الرابطة او التيار.

اسماء كثيرة اعتدنا سماعها منذ الصغر وبقيت على حالها، وان تغيّر الاسم الصغير لظروف قسرية، فإن اسم العائلة يبقى نفسه على رأس الاحزاب التي تخرج اجيالاً من الحزبيين الناشئين على مفهوم خاطئ وهو التبعية للزعيم وليس لبرنامج عمل حزبي، وكأن رئيس الحزب وحده هو الذي يملك البرنامج والرؤية وكيفية تطبيقهما على ارض الواقع، فيما الخبرة اثبتت ان هذا الامر مجرد وهم لا يمت الى الحقيقة بصلة.

واقعنا الحزبي في لبنان هو واقع خاطئ، ويجب تعليم الجيل الناشئ المفهوم الحقيقي للحزبية، وهي تبدأ في درسها الاول بعدم وجود رئيس حزب دائم، ولا يجب زرع الشك لدى المنتمين الى الحزب، اي حزب كان، لان التشكيك بقرارات رئيس الحزب هو خيانة تستحق المحاكمة، تماماً كما لا يجب ان تكون المعارضة داخل الحزب من اجل غايات غير وطنية او وصولية تهدف الى تطبيق اهداف بعيدة عن مفهوم الحزب والنهج الذي وضعه ونال العلم والخبر على اساسه.

مبروك للاحزاب انتخاباتها المغلفة باسم الديمقراطية، والاسف والاسى للحزبيين الذين ينتمون الى هذه الاحزاب لانهم لم يدركوا بعد انهم يدورون في حلقة مقفلة فارغة، والادعاء بتجديد الدماء انما هو تجديد للمحطات فقط، وتجديد على مستوى القاعدة كي يخرج من تحوم حوله الشكوك بأنه بدأ يعي حقيقة الامر، ويبقى من هو مستعد للسير على خطى رئيس الحزب دون شروط مسبقة.

سيعتبر البعض حتماً ان هذه الافكار تطال حزباً معيناً وسيضعونها في اطار "الانتقام" من هذا الحزب او ذاك، ولكن يكفي ان ينظر المرء بواقعية الى ما كتب والى الواقع الحزبي في لبنان ليدرك ان هذا الانتقاد البنّاء انما هو موجه لكل الاحزاب وليس الى حزب معيّن، مهما اعتقد البعض.