لعل اكثر ما يميّز الاسلام الحنيف في مذاهبه كافة والمذهب الشيعي الاثني عشري، الجعفري خصوصاً انه دين الانسان والتكيّف مع العصر وملاءمته عبر فقه الاجتهاد. فمعجزة دين الاسلام ليس في بلاغة وفصاحة وعمق وما يتضمنه القرآن الكريم من تعاليم وارشادات وسماح موانع فقط، بل ان معجزته الاساسية وميزته انه خاطب قوم النبي محمد ومن هداهم الى الدين الحنيف وحاكى عقولهم وعمل على ترشيد غرائزهم الجاهلية وضبط انفعالاتهم.
الاجتهاد الشيعي رغم انه لم يحقق تلك الثورة التجديدية المطلوبة لبقاء الاسلام في متناول عامة الناس وضمن التعاليم السمحاء الواضحة والبينة من دون تعصب او مغالاة، الا انه اطلق حراكاً مقبولاً في هذا السياق. ويحسب في هذا الاطار جرأة الفقيه المجدد والمرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله انه جعل من الاسلام والشيعة اكثر انسانية وإجتماعياً وانفتاحاً على الاديان الاخرى و"طمأن" الطوائف الاخرى والمذاهب. ورغم كل التجديد الذي قام به المرجع فضل الله، فثمة من يقول انه كان جريئاً وفتح باباً الى التجديد وربما لامس بداياته الاولى، من دون ان يكسر "المحرمات" او الجوامد او "الخشونة" التي ارساها بعض المغالين وبعض "التقليديين". لكن فضل الله كان ذكياً وواعياً ومستشرفاً، اذ قام بمخاطبة الشباب والمجتمع وقرّب رجل الدين الى قلوب الناس وعقولهم فحاورهم واختلف معهم وناقشهم من دون ان يخالف فكره وتكليفه وتعاليم دينه. فالجانب الاجتماعي في الاسلام هو ما يميّزه، فهو دعا الى الانفتاح على الآخر من دون ان يخسر خصوصيته او ينتهك خصوصيات الآخرين، فلم يجعلهم يتوجسون ولم يلغهم ولم يمنع عليهم ان يكونوا في دين آخر او ملل اخرى.
ما حدث منذ ايام في احد فروع كليات الاعلام من منع لبث اغنيات السيدة فيروز في تأبين او استذكار احد الطلاب المتوفين من قبل اصدقائه وزملائه، يعكس ضرورة عدم تعميم فكرة او ممارسة او اعتقاد لا يتماشى مع المجتمع المختلف او الآخر. فكسر هؤلاء العرف الاسلامي او العادات التي دأب عليها المسلمون عبر التاريخ، اذ كانوا يستذكرون الميت بمجالس الفاتحة وقراءة القرآن وتقبّل التعازي وكذلك كانوا يقومون بتعيين او استئجار او الطلب من قارىء للقرآن متبرع او يقبض مبلغاً رمزياً، ان ينصب خيمة او شادراً فوق مدفن او قبر المتوفي ويقرأ عليه القرآن ليلاً نهاراً في اليومين او الثلاثة ايام على الدفن وذلك لطلب المغفرة والرحمة له وللتخفيف عنه من وحشة القبر ولاستئناس الروح بالآيات الكريمة. وهذه العادة الاخيرة لم تعد متداولة في السنوات الخمس الماضية، الا فيما ندر بينما بقيت إحياء مجالس العزاء وقراءة الفاتحة ومجالس الفاتحة عن روح المتوفي.
في حادث الجامعة اللبنانية الآنفة الذكر، لم يدرك المانعون لحدود الخصوصية او التعاليم والاعتقادات من ضمن التنوع او المجتمع، فما يسري على المسلمين في منازلهم او خلواتهم الخاصة او مجالسهم او امكنة صلواتهم وتعبّدهم لا يفترض بالضرورة ان يسري في مجتمعات مختلطة وفيها من المسلمين وغيرهم. فلا بد من احترام المجتمع المتنوع من دون ان تخسر خصوصيتك او تشوه دينك او تتخلى عن عقيدتك ومبادئك.
هذا في الشكل، اما في المضمون فهناك مبالغة وتهويل بين المسلمين انفسهم قبل المذاهب والطوائف الاخرى. فالمشكلة الاساسية والتي اثارت الضجة اعلامياً وسياسياً ليس في "الحلال والحرام" او المسموح والممنوع بل من يقف وراءها. فحزب الله وتعبئته التربوية الطالبية في غنى عن متهورين وانفعاليين بالمعنى الشبابي والفردي للكلمة. فما يسري داخل جسم حزب الله التنظيمي يسري حكماً على المجتمع المتكون من الحزبيين وذويهم واقاربهم الخ، لكنه لا يصلح لغير المسلمين او الشيعة او السنّة او المسيحيين، وربما لا يصلح ايضاً على شيعي آخر لا ينتسب الى حزب الله.
فحزب الله وجسمه "اللبيس" في غنى ورضى وامان عن كل ما يجعله محط انتقاد او تناول فـ"صوفته" حمراء "خلقة". ويكفي سلاحه وقتاله في سورية وولاية الفقيه واعتقاداته الخاصة وامتداداته الايرانية ليكون محط سهام الاخصام والمبغضين. فحري به وبقادته ان يلجموا بعض الانفعاليين. وحسنا فعلت التعبئة التربوية بتوضيح ما يحصل فالقانون الذي يسري في لبنان ومؤسساته هو قانون مدني ويساوي بين جميع الناس، اما في المحاكم الدينية والمتعلقة بالطوائف فتلك مسألة اخرى.
وعلى هذا المنوال شهدت بلديتان مقربتان من حزب الله في الصيف الماضي حادثتين اثارتا ايضاً ضجة اعلامية، حيث منعت بلدية جبشيت الاختلاط بين الذكور والاناث في محل للتسلية وكما طالبت بخفض الموسيقى المرتفعة والاغلاق وقت الصلاة. بينما قامت بلدية عيترون بمنع الاختلاط في مسبح تابع للبلدية بين النساء والرجال وتحديد اوقات مختلفة لتواجد الجنسين.
وفي حين يمكن "التبرير" لخصوصية المجتمع في البلدتين، لكنه لا يمكن التبرير للبلديتين ان تتجاوزا القوانين المدنية التي تحكم آلية العمل داخل المباني البلدية.
وفي حين تبقى فيروز ايقونة للمجد اللبناني، ولا يمكن زجها في صراع سياسي او اشتباك ديني او شبابي من اي نوع كان، اكان طلاب حزب الله او غيرهم، يبقى لكل طائفة ومذهب في لبنان "حرية العمل" داخل حدود الطائفة من دون المس بخصوصية الفرد ومساحته من الحرية. وبما يتلاءم مع اجتماعية المجتمع، حتى لا يتحول الى غابة يحكمها الانفعاليون من المسلمين او غيرهم. والمعني هنا الطائفة الشيعية التي يفترض ان تكون قدوة في الانفتاح والتجديد بفقهها وخطابها واقترابها من مساحات الخلاف والاختلاف مع الطوائف الاخرى للوصول الى قيم ومبادىء مشتركة.