منذ إنطلاق التحالفات الدولية لمحاربة الإرهاب، اعتقد الكثيرون أن نهاية تنظيم "داعش" باتت قريبة، على وقع الهجمات التي يتعرض لها في معاقله الأساسية في سوريا والعراق، لكن على ما يبدو ان التنظيم في طور تكرار تجربته السابقة في العام 2007، مستفيداً من الإنقسامات التي تسيطر على المشهدين الإقليمي والدولي، التي تحول دون توحيد جهود القضاء عليه، الأمر الذي يدفع إلى السؤال عما إذا كان هناك رغبة فعلية بإنهاء هذه الظاهرة، أم أن المطلوب الإنكفاء للإستفادة منها مرة جديدة في مرحلة لاحقة؟

في الأشهر الأخيرة، كان من الواضح وجود سعي لإستعادة المدن التي يسيطر عليها التنظيم في سوريا والعراق، حيث شنّت العديد من العمليات العسكريّة لتحريرها، وأبرزها ما حصل في الموصل والرقة وريف حلب الشمالي والشرقي، لكن المفاجأة كانت نجاحه في إعادة السيطرة على مدينة تدمر، الأمر الذي يتطلب العودة إلى الوراء للإضاءة على الإستراتيجية المتوقّعة من جانب "داعش"، بالتزامن مع رغبة بعض الجهّات بالإستفادة من قدراته لإستنزاف خصومهم.

إنطلاقاً من كلمة المتحدث الرسمي باسم "داعش" أبو محمد العدناني، الأخيرة قبل مقتله، يمكن فهم الإستراتيجية التي سيعتمدها التنظيم في المرحلة المقبلة، فهو أكّد أن النصر على "داعش" لا يكون بقتل قائد أو أكثر أو بتحرير مدينة أو أرض، مذكراً بما كان حصل في العراق عندما شنت حملة واسعة على التنظيم، بالسؤال: "هل إنهزمنا عندما خسرنا المدن في العراق وبتنا في الصحراء بلا مدينة ولا أرض"؟.

وفي العديد من الإصدارات الأخرى كان التنظيم يتحدث عن العودة إلى الصحراء، ضمن ما يعرف بسياسة "الإنحياز"، أي الإبتعاد عن المواجهة في المدن والبلدات عند فقدان البيئة الحاضنة، تمهيداً للإنطلاق من جديد عندما يأتي الظرف المناسب، وهو ما حصل فعلياً بعد الحملة التي شنت عليه في العام 2007، ليعود إلى الظهور عند إنطلاق ​الأحداث السورية​، ومنها إلى الساحة العراقية.

وتشير بعض هذه الإصدارات إلى أن التنظيم إضطر، في تلك الفترة، بعد أن أصبح أصدقاء الأمس من "الفصائل الجهادية" أعداء اليوم من "الصحوات" إلى "الإنحياز"، حيث بدأ مرحلة جديدة بعيداً عن الحاضنة الشعبية، وعمل على تأسيس معسكراته في العراق، وعلى إنشاء طرق سريّة تربط بين المدن، إلا أن الأزمة السورية أوجدت الفراغ الذي يحتاجه للعودة إلى الواجهة، فكانت البداية عبر تشكيل جبهة "النصرة"، في أواخر العام 2011، قبل أن يعلن زعيمه أبو بكر البغدادي، في 9 نيسان 2013، أن "النصرة" ليست إلا امتدادا لـ"دولة العراق الإسلامية"، الأمر الذي أدى الى نشوء الخلاف الشهير بين الجانبين.

إنطلاقاً من ذلك، يمكن فهم ذهاب "داعش" إلى شنّ عملية عسكرية باتجاه مدينة تدمر، التي تقع في البادية السوريّة، في وقت يواجه فيه حملات كبرى في المدن السورية والعراقية، فهو يدرك جيداً أن البقاء في المدن غير مجدٍ عند فقدان البيئة الشعبية الحاضنة، حيث سيكون الإنقلاب عليه منها هو المصير المنتظر، في حين أن النجاة هو بالعودة إلى "الإنحياز"، أي الذهاب إلى الصحراء الواسعة الممتدة بين الدولتين، وانتظار الظرف المناسب للعودة من جديد، لكن هل سيتوقف نشاطه في هذه الفترة؟

التجربة السابقة، تكشف أن التنظيم سوف يبدأ الإعتماد على حرب العصابات، في مواجهة الجيوش المنظّمة والإسناد الجوّي الفاعل، بالإضافة إلى العمل على تكوين خلايا منظمة يكون عملها جمع المعلومات وتحديد الأهداف الحيويّة وإنتظار التعليمات لتنفيذ العمليات المطلوبة منها، التي تهدف بالدرجة الأولى إلى إستنزاف القوات الأمنية المحلية، بالتزامن مع الإستمرار بالعمليات الإرهابيّة الكبيرة، التي تستهدف الأماكن ذات الكثافة السكنيّة، ما يعني أن "داعش" لن يتمسّك بأي مدينة أو بلدة بل سيسعى إلى فتح جبهات غير متوقّعة وتنفيذ عمليّات كبرى في الوقت نفسه، من دون إهمال العمليات الخارجية، أي في البلدان البعيدة عن سوريا والعراق، والتي تهدف إلى دفع بعض الدول المشاركة في الحرب عليه للتراجع.

في المحصلة، "داعش" لن يفضّل البقاء في المدن، فالكثافة السكنيّة تعني إمكانيّة الإختراق والإنكشاف وبالتالي الإستهداف السهل، في حين أن الصحراء ستكون الملاذ الآمن، للإختباء والإنطلاق لتنفيذ هجمات إرهابية في أكثر من مكان. بالرغم من أن البعض يعتبرها مكاناً مكشوفاً للطائرات الحربية.