أعترف بأنني لم أقنع ذاتي، بعد، بأن ​جبران تويني​ قد رحل. ذلك أن حضوره الكبير في الوطن، يبقى طاغياً. فالرجل الذي استقطب الشباب، وحوّل نفسه الى محور فاعل، امتاز بصدق استثنائي مع الذات والآخرين، في طوباوية نادرة.

ولقد لازمني الإحساس بالقهر، منذ إغتيال جبران، ولما يزل. ووقفت عاجزاً عن إستيعاب الجريمة المروّعة، بل شُللت ذهنياً إزاءها: صحيح أن جبران كان شامخاً كالطود (رغم رقته ونعومته وأناقته) وصلباً كالصوان، وقاطعاً كحد سيف صقيل... إلا أنّ هذا لا يبرر - قطعاً لا - بل لا يفسّر عملية إغتياله إلا من باب الحقد الأعمى والإفلاس التام، لمن لا يملك، إزاء الكلمة الحرّة الجريئة، إلا «لغة» الغدر الفاجر الجبان.

ترقى معرفتي الوثيقة بجبران، التي توجّتها صداقة عميقة، الى مطلع الثمانينات عندما زارني في دبي (في مؤسسة «البيان» الدبوية الإعلامية) وكان موفداً بمهمة خاصة نحوي كلّفه إياها قائد لبناني كبير سبق جبران الى الشهادة (وتلك حكاية أخرى)...

تواصلت الصداقة مع جبران حتى لحظة رحيله المفجع. وقال لي ذات عشية: «يا أخي صار لازم نسطّر مذكرة جلب حتى نشوفك في موقعك الطبيعي. ثم استدرك ممازحاً: بس ما بيمشي الحال بالمذكرة، لأن النيابة العامة (آنذاك) ضدّنا... و«الأجهزة» كمان.

ناضل جبران صادقاً صريحاً، في حقبة التهافت على المنصب والمكسب، في زمن الزحف غير المقدس وتعفير الجباه، وتعهير المفاهيم، وعلك الكلام الفارغ والكليشهات السخيفة. زمن استباحة المحرّمات كلها، وهدر الكرامات كلها، وسقوط القيم كلها...

لم يلن. لم ينحن. لم يتراجع. لم يخف. لم يخش الموت ولا القتلة الجزارين.

ذات يوم كنّا نشاهد الشاشة الصغيرة، ونستمع الى كلام يدلي به احد الوزراء فقال جبران: «أتعرف أنّ هذا الفيل هو منافق صغير؟ أنظر الى وجهه تر الكذب قناعاً فوق قناع. إنه موظف صغير عند الأجهزة برتبة عميل» وأضاف جبران: «من يومين التقاني هذا الفيل وراح يكيل لي المدائح... ثم عرفت بالمصادفة أنه كتب بخط يده التقارير عني الى معلميه في الداخل والخارج، وهي محشوة أكاذيب واتهامات سخيفة... كيف بدّك الواحد ما يخجل بهيك مسؤولين؟ وكيف بدك نقبل بهيك مسؤولين؟»!.

يا جبران

أيها المصفّى المنقّى في زمن التلوث،

أيها الطاهر في زمن الدنس،

أيها الوفي في زمن الغدر،

أيها الكبير في زمن الصِغَر،

يا زين شباب الشهداء الأبرار،

أعترف بأنني لم اقتنع، بعد، بأنك رحلت، فأنت باق وخزاً في الضمائر وتوثباً في الشباب، وإيماناً بوطن واحد وسيظل قسمُك الشهير نشيد أبنائنا الوطني الجديد المتجدّد.

لك التحية وعليك السلام يوم ولدت، ويوم إستشهدت، ويوم تُبعث (كل آن) حيّاً في النفوس الظمأى الى وطن الحقيقة والعدالة والديموقراطية والحرية والسيادة والإستقلال.