تظنّ أنّك اكتشفت بيروت بكلّ حلوها ومرّها وبكلّ تناقضاتها وجنونها، إلّا أنّ حدثاً أو مناسبة تعيشهما أو تعرفهما يؤكّدان لك أنّ بيروت ما زالت تُخبّئ لك الكثير من الغرائب والتناقضات التي لن تمرّ عليك مرور الكرام.

وهذا تحديداً ما شعرتُ به حينما لبّيتُ الدعوة إلى المشاركة في الاحتفال الذي نظّمته لجنة تكريم المناضل ​غازي عاد​ في مناسبة مرور أربعين يوماً على وفاته... فوسط بيروت الذي نفَضَ عنه آثار الدمار التي تركتها الحرب على أبنيته وطرقاته ولو ظاهرياً، ما زال يحتَضن في إحدى ساحاته أطول اعتصام عرفه لبنان بدأ منذ العام 2005 حينما قرَّر غازي ورفاق له أن يُنظّموه كوسيلة ضغط لطيّ إحدى أسوأ نتائج الحروب وهي كشف مصير المفقودين والمخفيّين قسراً في الحرب اللبنانية، سواءٌ أكانوا أحياءً أو أمواتاً.

كان مشهد الأهالي وخصوصاً الأمهات، حزيناً يمتلئ بالذكريات الأليمة ومن خوف حقيقي أن تعود تلك الأيام، والأصعب من ذلك كان اللقاء يتضارب تضارباً فاقعاً مع بهرجة المباني المجدّدة ونظافة الشوارع التي لم تعد تَشي بأنّ حرباً مرَّت من هنا، وذلك على عكس النفوس التعبة والحزينة والخائفة.

رحت أتأمّل الوجوه الحالمة بلقاء تنتظره منذ اكثر من عشرين سنة وهي تستمع الى أميمة الخليل تنشد بصوتها الرائع «عصفور طلّ من الشباك»، متسائلاً لماذا لم تعمد الحكومات والسلطات المتعاقبة الى محاولة جدّية لإقفال هذه القضية المقدّسة، والتي لا تخصّ فقط هؤلاء المعتصمين وأقاربهم، بل هي تخصّ جميع اللبنانيّين كونها تُعتبر ممرّاً إلزامياً للانتقال من حال الحرب والشعور به الى سلم حقيقي...

كان اللقاءُ مستمراً وكذلك الأفكار التي كانت تُروادني. أيُعقل أن تمرّ كلّ تلك السنوات وأننا أمام الجيل الثالث من أقارب المخفيين وقصتهم لم تنتهِ بعد؟

ما هي الحكمة من وراء عدم إنشاء بنك تُجمَع وتُحفَظ فيه العيّنات البيولوجية من أهالي المفقودين والمخفيّين قسراً تمهيداً لإجراء الفحص الجيني عليها كخطوة أساسية وضرورية للتمكن من التعرّف الى هويات المفقودين أو الى رفاتهم إذا ما وُجدت؟

ولماذا لم يُقرّ اقتراح قانون الأشخاص المفقودين والمخفيّين قسراً العالق في أدراج المجلس النيابي، وبالتالي لم تُشكَّل الهيئة الوطنية المستقلّة التي ينصّ عليها هذا القانون والتي تتمتّع بالصلاحيات اللازمة للقيام بمهمّتها في البحث عن المفقودين والمخفيّين؟

وهل الهروب من هذا الإجراء الاداري البسيط، وإقرار القانون سببه المحاصصة الطائفية أم الإهمال أم التنكّر للحرب من قبل زعمائها الذين يريدون أن يُقنعونا أنّهم رجال سلم؟ أم أنّ عدم طيّ صفحة الحرب من قبل أولئك خصوصاً في شقّها الانساني هدفه الإبقاء على سيفها مصلتاً فوق رقابنا لنشعر أنّنا بحاجة دائمة الى زعيم وطائفة وحزب نحتمي بواسطتهم من الآخر؟

ولكي يترسَّخ فينا أنّ الاستقرار الذي ننعم به هو منّة من زعمائنا وأولادهم وأقاربهم، وفي حال تمرّدنا على إرادتهم سنعرف مصير هؤلاء المفقودين والمخفيين قسراً؟ كانت الاسئلة تمرّ أمامي بسرعة ومن دون أن تترك لي مجالاً للإجابة عليها وخصوصاً أنّ كلّ سؤال منها يحتاج الى مجلّدات للإجابة عليه.

انتهى اللقاء، خرجت منه ورحت أتمشى في شوارع الوسط، وشعرت بأنّها فارغة من الناس ومن مظاهر الحياة الطبيعية، وإذا بخوف يجتاحني وكأنني أمرّ أمام خطّ تماس لحرب لم تنتهِ، وهي تعشعش في ثنايا العاصمة وخصوصاً مع حاضر يمرّ ببطء حاملاً كلّ تناقضاته، ومستقبل لن نتحكّم به، كوننا فقدنا ماضينا...