فعلتها الحكومة في جلستها الأولى، وحققت سلسلة "إنجازات" في ملفاتٍ كان محظورًا على الحكومة السابقة التعرّض لها من قريبٍ أو من بعيدٍ، من ​ملف النفط​، إلى الجنسية، مرورًا بوضع مدير عام هيئة "أوجيرو" السابق ​عبد المنعم يوسف​.

وإذا كان بالإمكان القول أنّ جلسة الحكومة الأولى كانت مبشّرة ومطمئنة، انطلاقاً من المبدأ القائل بأنّ "المكتوب يُقرَأ من عنوانه"، فإنّ ذلك لم يمنع شرائح واسعة من اللبنانيين من التوجّس ممّا حصل، واشتمام روائح "الصفقات"، التي لا تبدو غريبة عن الطبقة السياسية اللبنانية...

قرارات مفصلية...

بدايةً، لا شكّ أنّ صورة "ورديّة" إلى حدّ كبير خرجت من الجلسة الأولى للحكومة اللبنانية، التي استطاعت أن تتّخذ قراراتٍ أساسية ومفصليّة في ملفاتٍ لطالما كانت تحيط بها "خطوط حمراء" بالجملة، فإذا بها، وبسحر ساحر، تحصد "توافق" الأفرقاء السياسيين، رغم التباينات الكبيرة فيما بينهم، وهو ما أثار ربما الريبة والاستغراب لدى البعض.

ولعلّ القرار الذي اتخذته الحكومة في قضية مدير عام "أوجيرو" السابق عبد المنعم يوسف، عبر إقالته من منصبه وتعيين عماد كريدية خلفاً له رئيسا ومديرا عاما لاوجيرو و​باسل الايوبي​ مديرا عام للاستثمار والصيانة في الاتصالات، شكّل "مفاجأة إيجابية" بالنسبة لكثيرين، خصوصًا أنّ الرجل المتّهم بـ"الفساد" كان محميًا لفترةٍ طويلةٍ من قبل كتلة "المستقبل" ورئيسها فؤاد السنيورة، والكلّ يذكر بيان الدفاع الشهير عنه الذي صدر عن الكتلة في عزّ المعارك التي كانت تُخاض ضدّه.

وعلى الرغم من أنّ تخلّي "المستقبل" بشخص رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ عن يوسف يمكن أن يندرج ضمن منطق "مرّقْلي تَ مَرّقْلَك"، كما يمكن أن يصبّ في خانة سعي الحريري لفرض نفوذه داخل التيّار على حساب السنيورة ورجالاته، فإنّ مجرّد صدور مثل هذا القرار عن الحكومة في أولى جلساتها لا بدّ أن ينعكس إيجاباً عليها، بغضّ النظر عن النوايا المبيّتة هنا أو هناك، لأنّ من شأنه إشعار المواطن بأنّ مكافحة الفساد لم تعد مجرّد شعار، وأنّ مبدأ المحاسبة قائم، ولو بعد حين.

ولا شكّ أنّ الأمر نفسه يسري على ملف النفط، الذي بقي محفوظاً في الادراج لفترة طويلة، تقاعس خلالها لبنان عن القيام بواجباته، بسبب تجنّب الحكومة السابقة مجرّد طرحه على طاولة النقاش، خشية أن يفجّرها ويطيح بها من الداخل، بفعل الاختلافات التي كانت قائمة على تقاسم الحصص، أو قالب الحلوى، وهو التشبيه المعبّر الذي يحلو لكثيرين استخدامه. وإذا كان ما تحقق على هذا الصعيد مجرّد خطوة أولى في مسارٍ طويل، فإنّها على الأقلّ تحقّقت، وإن متأخّرة، وفق قاعدة "أن تأتي متأخراً خير من أن لا تأتي أبداً"، وذلك بعدما سبقنا الإسرائيليون كثيراً وقطعوا أشواطاً طويلة عريضة على هذا الخط.

تفاهم وانسجام؟

انطلاقاً ممّا سبق، لا يمكن نكران أنّ ما تحقّق في مجلس الوزراء هذا الأسبوع ليس بسيطاً، كما يحاول بعض معارضي الحكومة الإيحاء، ولكنّه في الآن نفسه ليس نهاية المطاف، لأنّ ما بدأ عمليًا يحتاج إلى استكمال، خصوصًا في ما يتعلق بالتفاصيل وتفاصيل التفاصيل، التي يعلم القاصي والداني كيف أنّ الشيطان يكمن فيها.

وإذا كان صحيحاً أنّ هناك بعض علامات الاستفهام التي أحاطت ببعض البنود "الملغومة" التي مرّت في الجلسة، على غرار ما أثير عن "نفقات سرية" ضمن احتياطي موازنة رئاسة الحكومة، وهو ما أوضحته أمانة مجلس الوزراء، أو ما أثير عن عدم اطلاع الوزراء المسبق على السيرة الذاتية لمدير عام الاستثمار والصيانة في وزارة الاتصالات الذي وافقوا على تعيينه، فإنّ تفاهماً وانسجاماً لافتاً بين مختلف المكوّنات الحكومية ظهرا في جلسة مجلس الوزراء، يمكن بناء الكثير عليهما مستقبلاً، إذا كان هناك إرادة حقيقية بالتغيير والإصلاح، والأهمّ بالإنتاجية.

وعلى الرغم من الضجّة التي أثارها رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب ​وليد جنبلاط​ بتعليقاته "الافتراضية"، ما فتح الباب أمام أسئلة "مشروعة" عن وجود "صفقة ما" خصوصًا في الملفّ النفطي، وأنّ "البيك" معترض ربما لأنّ لا دور مباشراً له فيها، فإنّ "فترة السماح" الممنوحة للعهد الجديد ككلّ يفترض أن تسري أيضاً على هذا الموضوع، فما تمّ إقراره كان يجب إقراره منذ زمن. وبالتالي، وبغضّ النظر عن كلّ التفاصيل، وإن كان التوجّس هو الأمر الطبيعي بالنظر لـ"تاريخ" الطبقة السياسية وسيرتها الذاتية المعروفة للقاصي والداني، فإنّ المطلوب اليوم انتظار الأفعال قبل إصدار الأحكام على النوايا، خصوصًا أنّ المزيد من المماطلة في هذا الميدان بالذات من شأنه أن يُفقِد لبنان كلّ حقوقه النفطية المفترضة، علمًا أنّ ما حصل يصنّف كـ"خطوات إجرائية" لا أكثر، يفترض أن تستكمل بالمزيد من الخطوات، أقلّه لضمان الشفافية في الآتي من الأيام.

ماذا بعد؟

بعد جلسة مجلس الوزراء الأخيرة، انقسم اللبنانيون على جري عادتهم، فاعتبر قسمٌ أنّ ما تحقّق شكّل انطلاقة قوية للعهد "العوني"، أثبت أنّ ما قبله لا يمكن أن يكون كما بعده، في حين رأى قسمٌ آخر أنّ شيئًا لم يتغيّر، وأنّ ما حصل هو أصلاً جزءٌ من "صفقة كاملة" بدأ تنفيذها منذ انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية.

ولكن، سواء كان هذا الفريق أو ذاك هو المُحِقّ، يبقى الأكيد أنّ الأهمّ ممّا تحقّق هو ما سيأتي لاحقاً، خصوصًا على صعيد الامتحان الأساسي الذي ستخضع له الحكومة، أي قانون الانتخاب، الذي كان، للمفارقة، "الغائب الأكبر" عن جلسة مجلس الوزراء الأخيرة!