لم يعد رئيس حزب "القوات" ​سمير جعجع​ مُستبعداً عن أي إنفتاح سياسي في البلد. هو نجح في صياغة تفاهمات عدة منذ خروجه من السجن عام 2005. استعراض بسيط للمراحل التي مرّ بها حزب "القوات" يثبت ان "الحكيم" أعاد فرض نفسه رقماً صعباً في المعادلة اللبنانية. لا يقتصر الأمر على مشاركة دسمة في حقائب وزارية، ولا المشاركة في رسم سياسة الحكومة بعد لعب دور مهم في صناعة العهد الجديد. ولا الودّ الذي يمارسه تجاه القوى السياسية جميعها من دون استثناء. المسألة تتعدى ذلك الى حدود فرض "القوات" لاعباً أساسياً في الساحة الداخلية لا يمكن تجاوزه.

سياسة "الحكيم" الواقعية في هذه الفترة توحي وكأن "القوات" مقبلة على مزيد من حصد النتائج السياسية. فليتخيل المرء لو بقي جعجع ينادي بنفس العناوين والشعارات التي سبقت العام الماضي. لو كان استمر "الحكيم" رأس حربة في مشروع قوى 14 آذار ومهاجمة سياسات "التيار الوطني الحر" وقوى 8 آذار، كما كان يحصل في السنوات الماضية، ما كان أنجز حزبه كل هذه المكاسب. صارت "القوات" اكثر قبولاً عند كل الطوائف وفي معظم المناطق. ثبّت "الحكيم" نفسه فتمدد نفوذ حزبه.

صحيح ان تبني ترشيح العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية أعطاه زخماً مسيحياً يستطيع ان يستثمره في كل المراحل، وخصوصاً في الانتخابات النيابية، وربما الرئاسية. لكن تحالفه مع تيار "المستقبل" يعطيه غطاء اسلامياً سُنيّاً بصورة أساسية، وهذا ما يستوجب عنده الحفاظ على هذا الحلف، مهما يحصل. التحدي امام "الحكيم" اليوم يكمن بكيفية بناء علاقة قواتية مع "الثنائي الشيعي". يُدرك جعجع هذه المسألة جيداً. هو بحاجة لتلك العلاقة لاستكمال انفتاحه الوطني. هذا ممكن. حركة "أمل" تُمارس إيجابية سياسية في العلاقات مع القوى منذ نشأتها من دون وضع فيتوات على أحد، وخطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الأخير إعترف بحزب "القوات" قوة داخلية وازنة. لكن الثنائي المذكور يحدد نوعية علاقاته بالقوى بحسب الموقف من المقاومة. هي المدخل عنده لعلاقات سياسية طبيعية. التباين ديمقراطي، ما يفرض حواراً شفافاً كما حصل بين "المستقبل" و"حزب الله". ما الذي يمنع هنا من قيام حوار مشابه بين "القوات" والقوى الشيعية؟!. صفحة الماضي طُويت، ومسار الحرب اللبنانيّة انتهى. المخاطر الإرهابية تستوجب تلاقي الجميع. تلك المخاطر تسمح لرئيس "القوات" أن يقبل بسلاح المقاومة كضرورة للحفاظ على الوجود. عدا عن إسرائيل ومخاطرها الدائمة، أثبتت معارك الجرود الشرقية تلك الضرورة. فليسأل "الحكيم" أنصاره في البقاع الشمالي. من يدافع، ومن يعطي الثقة للناس بأن الإرهابيين لن يصلوا الى مناطقهم الحدودية؟. فليسأل جعجع أهالي دير الاحمر وشليفا وبشوات وأقاربه في برقا عن ارائهم بالمقاومين على الحدود الشرقية، وعن العيش المشترك بين أهالي بعلبك. سلاح المقاومة تكامل مع دور الجيش هناك فكانت حماية لبنان على البوابات الشرقية، ولا تزل.

"الحكيم" نفسه ايضاً يُدرك الدور الوطني الذي يلعبه رئيس مجلس النواب نبيه بري. هو اشاد مراراً بدور رئيس حركة "أمل". كرر مخاطبته "بالصديق". رغم مقاطعته للحوار سابقاً في عين التينة، يعرف "الحكيم" أهمية ما قام به بري الذي حفظ البلد في الحوار ورأب الصدع في اصعب مرحلة مر بها البلد.

جعجع قادر على ترجمة تلك الإشادات برئيس المجلس. ربما يحاول الآن.

اذا أراد رئيس "القوات" استكمال انفتاحه، لا بد من مدّ اليد الى رئيس تيار "المردة" النائب ​سليمان فرنجية​. قد لا يصل الامر لحد التحالف. لكن طَي صفحة الماضي تتطلب تفعيل لجان التواصل بين الطرفين وتطويرها من أمنية الى سياسية. بالنسبة للثنائي الشيعي فإن لزعيم "المردة" مكانة لم يتجاوزها سابقاً اي من الفريقين.

المطلوب من "القوات" تفكيك العُقد وازالة المطبّات من امام تمددها. هي قادرة على فعل ذلك. من استطاع هضم تصدّر "الجنرال الخصم" الذي تبنّاه "الحكيم" رئيساً، يستطيع مصالحة فرنجية، والاعتراف بسلاح المقاومة او على الأقل تنظيم الخلاف مع "حزب الله" وتنسيق العلاقة مع حركة "امل".

يستطيع جعجع فعل ذلك كله، تدفعه التطورات الاقليمية التي ثبّتت قوة المقاومة اقليمياً مقابل تعثر خصومها او اعدائها، وفشل "الربيع العربي" الذي راهن عليه في بداياته، وإنكفاء الولايات المتحدة الاميركية المرتقب مع الرئيس دونالد ترامب، وتغيّر الاولويات الأوروبية بعد تصدّر الحاجة لمحاربة الاٍرهاب، وتوسّع الروس، وتبدّل المشهد التركي، والتموضع المصري، والازمات الخليجية.

"الحكيم" قارئ جيد. هو يعرف ان ترسيخ "القوات" في الصدارة الوطنية يحتاج لسياسة انفتاحية كتلك التي قضت بتنازلاته الرئاسية ثم الحكومية. فهل يُقدم "الحكيم"؟ أغلب الظن أنه سيجرّب.