منذ انطلاقة "العهد الجديد" بانتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية وتسمية ​سعد الحريري​ رئيسًا للحكومة، ورئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" النائب ​وليد جنبلاط​ يظهر بصورةٍ لم يعتدها مناصروه ومؤيّدوه، لدرجة لم يبقَ أحدٌ من الأفرقاء خلال الساعات القليلة الماضية إلا وقد "تطوّع" للوقوف على خاطره والتبديد من هواجسه.

وعلى الرغم من أنّ جنبلاط انضمّ، ولو في اللحظة الأخيرة، إلى "صفقة" انتخاب عون رئيسًا، ولم يعارضها عمليًا، إلا أنّ تعليقاته "الافتراضية" في ما بعد على كلّ الملفات، من مراسيم النفط وصولاً إلى ​قانون الانتخاب​ مروراً بالميكانيك والاتصالات وغيرها، أوحت وكأنّه "مستثنى" من كلّ الصفقات والتسويات، ما يطرح علامات استفهام...

سبحان مغيّر الأحوال...

بدايةً، لا شكّ أنّ تعديلاً جوهريًا طرأ على موقع ودور رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" في الآونة الأخيرة، بعدما حظي على مدى سنوات أعقبت جريمة اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري بلقب "بيضة القبان"، مستفيدًا من الانقسام العمودي الذي شهدته البلاد بين فريقي "8 و14 آذار"، وتموضعه في "الوسط" فيما بينهما، ما خوّله "التحكّم" بالجميع بشكلٍ من الأشكال.

لكن، وعلى طريقة "سبحان مغيّر الأحوال"، فإنّ الأمور تغيّرت رأساً على عقب مع العهد الجديد، بل منذ مرحلة ​الانتخابات الرئاسية​، حين بدأ "البيك" يشعر أنّ الأمور فلتت من بين يديه، ولم يعد لكلمته الوقع والصدى والتأثير كما في السابق. وعلى الرغم من محاولة الرجل الدخول على الخط بدايةً عبر تسمية مرشحٍ "وسطي" من كتلته للرئاسة، إلا أنّه كان واضحًا أنّ "تحكّمه" باللعبة بات في خبر كان، مع نجاح "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" في تغيير المعادلة، من خلال تطيير نصاب جلسات انتخاب الرئيس.

ولعلّ "الانقلابات الدراماتيكية" التي شهدتها الساحة السياسية، على خلفية الانتخابات الرئاسية، ساهمت إلى حدّ كبير في "تحجيم" دور جنبلاط، خصوصًا بعد تغيّر "الخريطة السياسية" بشكلٍ مُطلَق، بفعل "الموت السريري" لقوى 8 و14 آذار، ونجاح "التيار الوطني الحر" في نسج تحالفات ضمّت "الأضداد"، من "حزب الله" إلى "تيار المستقبل" و"القوات اللبنانية" وغيرهم. وقد أفضى هذا الأمر تلقائيًا إلى "إضعاف" موقع "البيك"، الذي بات عليه الالتحاق بركب الآخرين، بدل دفعهم للالتحاق بركبه كما كان يفعل دومًا، وهو ما فعله بانضمامه إلى التسوية الرئاسية "مكرَهًا لا بطلا"، إن جاز التعبير.

وعلى الرغم من أنّ "الحزب التقدمي الاشتراكي" لم يُنحَّ جانبًا، وحفظ "حصّته" في الحكومة، إلا أنّ "المقايضات" التي حصلت على خط استشارات تأليف الحكومة لم توحِ بأنّه خاضها من موقع "قوة"، خصوصًا في ظلّ "التناتش" على الحقائب التي صُنّفت على الطريقة اللبنانية ما بين سيادية وأساسية وما شابه، لم يحصد منها جنبلاط شيئًا يُذكَر، خصوصًا بعدما سُحِبت منه حقيبة العدل سحبًا في اللحظة الأخيرة، ولم يبقَ له سوى التربية التي رفضها غيره، والمهجّرين التي أسندها لحليفه رئيس الحزب "الديمقراطي اللبناني" النائب طلال أرسلان، إلى جانب وزارة دولة.

الحلقة الأضعف؟

لم تنتهِ الأمور عند هذا الحدّ من "الشكليات"، ويكفي الاطلاع على "تغريدات" الرجل الدورية على مواقع التواصل الاجتماعي لملاحظة أنّه تحوّل من "بيضة القبان" إلى "الحلقة الأضعف"، لدرجة أنّه بات يطبّق سياسة "التيار الوطني الحر" السابقة وفق منطق "المعارضة من الداخل"، وذلك من بوابة "رفض الاستسلام"، كما يقول.

وإذا كانت تعليقات جنبلاط في الآونة الأخيرة أوحت بأنّ الرجل "ممتعض" من المآل الذي وصلت إليه الأمور، خصوصًا أنّه بات عمليًا وحده "يغرّد" في "الاتجاه المعاكس" في مجلس الوزراء، راسمًا علامات استفهام ساخرة حول كلّ "الإنجازات" التي تتفاخر بتحقيقها مكوّنات الحكومة الأخرى، فإنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ لدى الرجل هواجس مشروعة، خصوصًا أنّه يعتبر نفسه ممثلاً لطائفة أساسية لا يمكن تجاهلها أو القفز فوقها بأيّ شكلٍ من الأشكال.

ولعلّ تحوّل جنبلاط إلى موقع الباحث عن "تعاطف" الأفرقاء الآخرين معه، وهو ما حصل في الساعات الأخيرة، يعبّر خير تعبير عن الواقع الذي وصل إليه الرجل، الذي لم يعد خافيًا على أحد أنّ الهاجس الأكبر الذي يؤرقه اليوم يتمثّل بقانون الانتخاب، هو الذي لا يتردّد في المجاهرة بنيّته "مقاومة" المشاريع النسبيّة، التي يدعو إليها البعض علناً وإن كانوا يعملون ضدّها سراً، وهو الذي يدرك أنّ قانونًا غير إلغائي من هذا النوع من شأنه أن "يهمّشه" أكثر وأكثر.

من هنا، فإنّ جنبلاط "الخائف" اليوم من إقرار قانونٍ انتخابي لا يناسبه، خصوصًا بعدما خسر دوره "المرجّح"، يعمل بكلّ ما أوتي من قوة لفرض "خطوط حمراء" في أيّ قانونٍ جديد، من بينها عدم المسّ ببعض الدوائر الانتخابية المحسوبة عليه، ولا سيما في الشوف وعاليه، لأنه يعتقد أنّ "الاستنسابية" في التعاطي مع هذا الأمر لن يؤدّي إلى تقليص حجم كتلته النيابية غير الكبير أصلاً، بل سينهي "الزعامة المطلقة" التي لطالما احتكرها داخل الطائفة الدرزية، مفهومًا وممارسةً، وهنا الطامة الكبرى بالنسبة إليه.

إلى أين؟

قد لا تكون مخاوف جنبلاط في مكانها، باعتبار أنّ الطبقة السياسية التي تعلن أنّها تريد إقرار قانون انتخابي جديد، لا تسعى ضمناً إلا إلى تكريس القانون القديم الذي يحفظ لها مقاعدها كما هي، أو في أحسن الأحوال، إلى إنتاج قانون جديد "مستنسَخ" عن القديم، على طريقة "الضحك على الذقون"، لا أكثر ولا أقل.

وبغضّ النظر عن هواجس جنبلاط ومخاوفه، وما إذا كانت مشروعة أم لا، فإنّ سؤاله "إلى أين" الذي اشتهر به جنبلاط يجوز أن يُطرَح عليه اليوم، خصوصًا أنّ موقع "الحياد" قد لا يكون الأنسب له في المرحلة المقبلة، بعدما خسر معظم امتيازاته...